المؤثّرون الوهميون

2

عبد الرحمن النقبي
 

حضرتُ في وقت سابق ورشة عمل جمعت نخبة من القيادات التنفيذية وصنّاع الاستراتيجيات. طُلب من المشاركين أن يعبّر كل منهم عن هدفه في الحياة والعمل. تنوّعت الأهداف، وتعددت الرؤى، لكن ما لفتني حقاً هو تكرار كلمة واحدة على ألسنة كثيرين: “التأثير”.

أن يكون للإنسان أثرٌ إيجابي، مهما كان موقعه، هو في نظري غاية إنسانية نبيلة. أن تترك أثراً طيباً في محيطك المهني، أو في مجتمعك، أو في حياة فرد واحد حتى، هو من أعظم ما يمكن أن يسعى إليه الإنسان. فالأثر الحقيقي لا يُقاس بالعدد، بل بالعمق.
ولا يُوزن بالصوت المرتفع، بل بما يتركه في الوجدان من تحوّل أو إلهام أو وعي.

ومن هنا، جاءت هذه المقالة ليست للنقد أو التصنيف أو المقارنة بين الأشخاص – فكل إنسان يستحق الاحترام والتقدير، ولكل شخص تجربته وظروفه واختياراته – بل هي وقفة تأمل في المصطلح نفسه: من هو المؤثّر؟ وما الذي يجعل شخصاً ما يستحق هذا اللقب الواسع الانتشار؟

في السنوات الأخيرة، شاع استخدام كلمة “مؤثّر” على نطاق واسع، وغالباً ما تُطلق على من يملكون عدداً كبيراً من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، بغضّ النظر عن نوع المحتوى أو الأثر الذي يتركونه.
لكن التوقف هنا ليس حول الأشخاص، بل حول الكلمة ذاتها: هل التأثير هو مجرّد انتشار؟ هل يكفي أن يشاهدني كثير من الناس لأكون مؤثّراً؟ أم أن التأثير الحقيقي يرتبط بمحتوى يغيّر، ويضيف، ويُلهم، ويُساهم في تحسين حياة الناس؟

كلمة “مؤثّر” كلمة كبيرة، عميقة، ومسؤولة.
ولا ينبغي أن تستخدم بوصفها مجرّد لقب، أو معياراً للنجاح الرقمي. بل هي – أو يجب أن تكون – عنواناً لمن يقدّم للناس ما ينفعهم، ويجعلهم أكثر وعياً، أو صحة، أو جمالًا في نظرتهم إلى الحياة، أو قدرة على تجاوز تحدياتهم.

ولا ننكر أن هناك من يقدّمون محتوى رائعاً ومؤثراً في مجالات متعددة كالصحة، والتغذية، والسفر، والتنمية الذاتية، والعمل الإنساني، وغير ذلك. هؤلاء يستحقّون أن نُطلق عليهم لقب “مؤثّرين” بحق، لأنهم يتركون أثراً حقيقياً، ملموساً، ومستمراً، يساهم في بناء حياة أفضل، ويُلهم غيرهم للخير أو النمو أو الاكتشاف.

لكن في المقابل، ومع اتّساع هذا المصطلح، أصبح يُطلق على من لا يقدمون سوى حضور بصري أو تكرار لأقوال غيرهم دون إضافة أو وعي. مرةً أخرى، لسنا هنا في موقع إصدار الأحكام أو التقليل من شأن أحد – فكل شخص حرّ في خياراته، وكل تجربة تُحترم – لكنّ ما يُستدعى للمراجعة هو اللغة التي نستخدمها والمفاهيم التي نروّج لها.

فإذا ساوينا بين من يصنع فارقاً حقيقياً في حياة الناس، ومن يكتفي بتقليد الظاهر دون مضمون، فقد نفقد تدريجياً المعايير التي تمنح للكلمات قيمتها، ولن يكون “التأثير” حينها سوى صدى رقمي، لا أثر له في الواقع.

المؤثّر الحقيقي ليس بالضرورة من يتحدث في الفلسفة أو الأدب أو العلم، بل قد يكون من يشارك تجربته بصدق، أو يقدّم معلومة تُفيد، أو موقفاً يُلهم. قد يكون طبيباً يبسّط المعلومة، أو مسافراً ينقل جمال العالم، أو متطوعاً يُضيء جانباً إنسانياً مُهمَلًا.
الأثر لا يُشترى، ولا يُصنع فجأة، بل يُبنى بالمحتوى، ويُثبت نفسه عبر الزمن. ولذا، فإن الدعوة هنا ليست انتقاداً، بل مناشدة للتمييز بين الظهور والتأثير، بين التجميل والتأصيل، بين من يُنير الناس، ومن يُبهرهم فقط. 
فلنُحسن استخدام الألقاب، ونمنح الكلمات قدرها، ونُبقي “المؤثّر” لقباً لمن يستحقه حقاً، لا لمن تكرّر اسمه في الصفحات الأولى، بل لمن تكرّر أثره في قلوب الناس.

وفي النهاية، لا يبقى من كل هذا الزخم إلا ما صدق، ولا يخلّد من الأسماء إلا من ترك أثراً جميلاً، لا من صنع ضجيجاً عابراً.

التعليقات معطلة.