خالد الدخيل
عندما بدأ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يخطط للترشح عن الحزب الديموقراطي عام 2006، طرح عليه سؤال عما إذا كانت عقبة العرق ولون البشرة ستؤثر على حظه في الفوز في الانتخابات ليكون أول رئيس من أصل أفريقي للولايات المتحدة، فأجاب: «المجتمع الأميركي جاهز للتغيير». كان محقاً في ما قاله، لأن هذا ما حصل في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008. بل فاز لفترة رئاسية ثانية عام 2013. موقف مشابه إلى حد ما واجه دونالد ترامب عندما ترشح للانتخابات الرئاسية عن الحزب الجمهوري عام 2015. كثيرون لم يأخذوا ترشحه على محمل الجد، فضلاً عن أن يفوز بالبيت الأبيض. لكن الرجل هزم كل التوقعات، وجاءت نتيجة الانتخابات في نوفمبر 2016 لمصلحة تقلده الرئاسة، وإن بفارق صغير، ليصبح الرئيس الـ45 للولايات المتحدة.
ما هو مصدر هذا التشابه في الموقف من ترشح كل منهما، وفي النتيجة التي جاءت نقيضاً لذلك الموقف؟ يعود تشابه الموقف من ترشح كل من أوباما وترامب إلى الثقافة. أما النتيجة المعاكسة لهذا الموقف فتعود إلى تلاقي المؤسسة، أو مؤسسة الحكم المعروفة أميركياً بـ (The Establishment) مع هذه الثقافة. وهو ما يفضي إلى قضية العلاقة بين هاتين القوتين في المجتمع، وهي قضية شائكة وحساسة. على العكس من جميع الرؤساء الـ43 لم يكن أوباما ولا ترامب ينتمي في الأصل إلى مؤسسة الحكم، لأسباب مختلفة. فترامب رجل أبيض، ومن طبقة رجال الأعمال الأثرياء. فوق ذلك تنتمي ميوله وتطلعاته إلى التيار المحافظ. وبالتالي فهو في الأصل، وبهذه المواصفات يملك كل الحق في الانتماء إلى المؤسسة. لكن شخصيته وتاريخه وسلوكه الجسدي واللغوي، كل ذلك تضافر ليضعه خارج حدود موروث المؤسسة وتقاليدها، بما في ذلك خطابها السياسي الذي ترسخ عبر أكثر من قرنين من الزمن. ومعارضو ترامب لا يقتصرون على التيار الليبرالي، بل يواجه معارضة داخل الحزب الجمهوري الذي يمثله. ومن ثم فإن فوزه بالرئاسة على رغم كل ذلك يؤشر إلى تغير ما حصل للمؤسسة، وربما لعلاقتها بالمجتمع.
عندما نأتي إلى باراك أوباما نجد صورة مختلفة لعلاقته بمؤسسة الحكم. فهو ينتمي لطبقة لم تكن في الأصل خارج حدود هذه المؤسسة وحسب. كانت تقع خارج حدود الإنسانية بمعايير ثقافة المجتمع الأميركي حتى ستينات القرن الماضي. ليس هنا مجال العودة إلى بدايات التاريخ الأميركي، وكيف كانت علاقة الإنسان الأسود مع الأبيض في هذا التاريخ، وما حصل لها حتى دخول أوباما إلى المشهد السياسي. لكن هناك حكاية الأميركي الأسود، دريد سكوت في أواخر خمسينات القرن الـ19، وهي حكاية تكشف، مع حكاية أوباما، المسار السياسي والقانوني للطبقة التي ينتمي إليها كل منهما، بما كانت عليه علاقة هذه الطبقة مع مؤسسة الحكم، وما انتهت إليه. تبدأ الحكاية بأن سكوت رفع قضية يطالب فيها بحريته من العبودية، وحرية زوجته وابنتيه. لكن المحكمة العليا صوتت بأغلبية 7 إلى 2 برفض طلبه بناءً على أنه لا يحق له، ولا لأي إنسان من أصل أفريقي المطالبة بالجنسية الأميركية، كان ذلك عام 1857. وفق المؤرخ الأميركي اليساري هاوارد زن كان رفض المحكمة العليا لحق سكوت بالمطالبة بتحريره من العبودية لأنه لم يكن في نظر المحكمة إنساناً، وإنما سلعة، وبالتالي لا يشمله الحق الإنساني في الحرية.
إنطلاقاً من ذلك، يقول زن إن نظام العبودية كان من التجذر في المجتمع الأميركي آنذاك، والسبيل الوحيد للتخلص منه بات محصوراً في ثورة عامة للعبيد، أو حرب أهلية شاملة. وكانت الحرب الأهلية 1861 – 1865م بالفعل بداية الطريق الطويل نحو حرية المجتمع الأميركي، قبل حرية العبيد. عام 1862م أصدر الرئيس أبراهام لينكولن إعلان حرية العبيد. واستمرت هذه المسيرة بتعرجاتها حتى هذه اللحظة، إذ أصبح الإرث العرقي قانونياً من مخلفات التاريخ الأميركي. في اللحظة ذاتها تقدم أوباما بأوراقه ليس مطالباً بحقه في الحرية كما فعل سكوت، وإنما للترشح لتمثيل الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية. وفي ضوء حجم نتائج الانتخابات التي أفضت إلى فوزه بالرئاسة عام 2008 صارت فرضية الوعي العرقي في المجتمع الأميركي في إطار مختلف، وتحت إضاءة تاريخية مختلفة. لم تعد الحرية، ومعها المواطنة حقاً طبيعياً للإنسان الأسود، بل صار بالتبعية من حقه الطبيعي أيضاً الإنتماء لمؤسسة الحكم. وهنا يبرز حجم التحول الذي حصل بين 1857 و2008، أو أكثر من قرن ونصف القرن. فإذا كان قضاة المحكمة العليا قد رفضوا بأغلبية كبيرة عام 1857 حق سكوت في الحرية، فإن عام 2008 سيشهد وصول باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض ومعه الحق الدستوري بترشيح قضاة المحكمة ذاتها.
لعله من الواضح، أن حجم التحول في مؤسسة الحكم وعلاقتها بالثقافة الذي مثله وصول أوباما إلى الرئاسة أكبر بكثير من التحول الذي ربما ينطوي عليه وصول ترامب إلى المنصب ذاته. كلاهما جاء إلى المؤسسة من خارجها لأسباب ومعطيات مختلفة وتاريخ مختلف. في أصله وجذوره الاجتماعية لم يكن أوباما ينتمي إلى هذه المؤسسة. لكنه عندما ترشح كان ينتمي قانونياً وسياسياً إليها، وإلى موروثها بما في ذلك خطابها الذي تميز دائماً بسماته السياسية واللغوية. على العكس من ذلك كان ولا يزال ترامب. فهو في أصله وجذوره الاجتماعية يحق له الانتماء إلى المؤسسة، لكنه بشخصيته وتجربته وخطابه يقع خارج حدودها. الأهم من كل ذلك هو مركزية هذه المؤسسة في التاريخ الأميركي، فمنذ 1787عندما تحقق التوافق على الدستور، وحتى 2017 عندما فاز ترامب بالرئاسة، ظلت هذه المؤسسة تنمو بشكل مضطرد، تزداد قوة مع الزمن، وتتراكم أسسها وخبرتها الدستورية، وتترسخ مرجعيتها، ويترسخ احترام تقاليدها الدستورية وآلياتها السياسية. اتسعت لأوباما، وتتسع لترامب. وفي مقاومتها لتجاوزات الأخير وعنجهيته وعدم انسجامه معها، تلتزم بالتقاليد والآليات ذاتها. لكن اللافت في تجربة هذه المؤسسة حقاً هو مسيرتها المتصلة في كل ذلك من دون انقطاع على مدى 230 سنة. وفي هذا فرادة عرف بها التاريخ السياسي الأميركي. ويبقى السؤال عن علاقة ذلك بتحول أميركا عبر هذه المسيرة من مستعمرة بريطانية إلى أعظم دولة في التاريخ؟