فاتنة الدجاني
شعوران يتنازعان الفلسطيني مع انعقاد اجتماعات المجلس الوطني في رام الله، واحدٌ يشي بعودة الثقة بالنفس واستعادة المبادرة السياسية، والثاني هو القلق مما ستحمل الأيام المقبلة في ضوء وعي الممكن والمتاح والخوف من تعظيمهما.
لا يختلف اثنان في الإقرار بالمأزق الذي وصل إليه المشروع الوطني. والفضاء العام الفلسطيني، بكل مؤسساته السياسية والمدنية وإعلامه وكتّابه ومثقفيه ووسائل تواصله الاجتماعية، يعيش منذ أكثر من شهر حالاً من العصف الذهني تحت عنوانين لا يختلفان في المحتوى: الأول، البحث عن استراتيجيا فلسطينية لمواجهة التراجع في زخم الحركة الوطنية، والثاني الاتفاق على مشروع وطني. وفي الجوهر منهما تقع مسألة الوحدة الوطنية حول ثوابت متفق عليها هي بوصلة العمل لدحر الاحتلال أساساً، ثم بناء الدولة المستقلة كتتويج وثمرة للنضال.
كثيرون يضعون أملهم باجتماعات المجلس المركزي، ويَرَوْن أن المطروح ليس أقل من ثورة… نقطة تحوّل في الصراع وفي العلاقة مع إسرائيل وأميركا وأوروبا، وحتى داخل البيت الفلسطيني. ما قبل هذه الاجتماعات لن يكون مثل ما بعدها!
صحيح أن موقف السلطة وتصريحات مسؤوليها وتسريباتهم رفعت سقف التوقعات من الاجتماع وحمَّلته ما لا يحتمل، وصحيح أن جدول أعماله مكتنز بقضايا مصيرية، تمتد من سبل التصدي لقرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها «عاصمة لإسرائيل» والتحرر من رعاية واشنطن للمسيرة السلمية، إلى الرد دولياً على الاحتلال وقراراته، إلى مراجعة مرحلة أوسلو وآليات تفعيل المقاومة الشعبية ودور المجلس المركزي وحتمية المصالحة الوطنية… إلا أن ما يفرض نفسه على الواقع وعلى الأطراف الفلسطينية هنا هو المحددات. وفي مواجهة التحدي الأميركي، فإن انعقاد المجلس المركزي، مثله مثل كل التحديات، مكبّل بالمحددات، وبعضها محلي، يتسم بتجويف كثير من المرتكزات، إن لم يكن كلها. فلا المقاومة المسلحة ممكنة، ولا الانتفاضة ممكنة أو مقبولة شعبياً، ولا الثوابت متفقٌ عليها، ولا الفصائل والأحزاب موجودة كحقيقة. ويردف ذلك كله فساد النخب ومؤسسات المجتمع المدني المرتهنة للعون الأجنبي المشروط إسرائيلياً. أما المحددات الإقليمية، فأفصحت عن نفسها في بيانات المؤتمرات وكواليس انعقادها في إسطنبول والجامعة العربية وفي عمان، متجنبة التصادم مع الإدارة الأميركية.
والمحددات الدولية ليست أفضل حالاً، فقد عبّرت عن نفسها في أروقة الأمم المتحدة بين «الفيتو» الأميركي وبين التضامن الرمزي من الجمعية العامة. كما عبَّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الكتلة الأوروبية بقوله إنه لن يتبنى قراراً يُفهم منه تحدي الرئيس دونالد ترامب، فيما تسعى بريطانيا إلى استعادة دورها في المنطقة من دون تحدي أميركا بعد أن فاتها الدخول، مثل غيرها، من البوابة السورية لانشغالها بالخروج من أوروبا (بريكزيت) وضعف حكومة تيريزا ماي.
فماذا إن كان البحث في الثوابت الوطنية الفلسطينية انتهى حتى قبل انعقاد المجلس حين أعلنت حركتا «حماس» و «الجهاد الإسلامي» رفضهما المشاركة في اجتماعاته، فغابت كلياً مسألة الوحدة الوطنية؟ ولأن ثوابتهما مختلفة، جاء رفض القبول بمبادئ اتفاق أوسلو، لتغيب مسألة مناقشة هذا البند عن جدول الأعمال، هذا بافتراض أن اجتماع يومين سيكون كافياً للمراجعة الشاملة للمسيرة السياسية، فيما السلطة لا تُبدي أي إشارة إلى التراجع أو المراجعة.
حتى الآن، الثابت الوحيد أن السلطة تسعى إلى التحرر من أخطار الرعاية الأميركية لعملية السلام وإيجاد بديل منها، لأنها تعرف ثمن «صفقة القرن» ولا تستطيع دفعه، وفي هذا لا مفر، وعلى رغم ذلك فاجأت الجميع عندما بدأت بخفض حدة المواجهة مع واشنطن بدعوة القنصل الأميركي في القدس لحضور اجتماعات «المركزي». وفيما كان الحديث عن تجميد العلاقات، أصبح المقصود مقاطعة فريق السلام الأميركي وحده.
أمام كل هذه المحددات والتحديات، وأمام تنصُّل الأطراف الإقليمية والدولية، وترك السلطة وحيدة في مسألة مجافاة أميركا، هل يُؤَمِّن المجلس المركزي السُلَّم المطلوب للنزول من السقف العالي؟