ماريو فارغاس يوساروائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
تناولت منذ أيام، من باب التسلية، كتاباً لأندريه مالرو كنت قررت عشرات المرّات أنه لا يستحق عناء المطالعة، لأن شخصياته التي من بينها عدد من كبار زعماء القرن العشرين، تبدو أقزاماً أمام شخصية مالرو المنتفخة، التي تنطق بحياء، ودائماً بتوجيه من محاورها، بكل ما يريد الكاتب لها أن تقول.
أواسط سبعينات القرن الماضي، وخلال تولّيه حقيبة الشؤون الثقافية في حكومة الجمهورية الخامسة على عهد الجنرال ديغول، قام أندريه مالرو برحلة طويلة إلى الشرق الأقصى، موفداً من الرئيس الفرنسي، ليتعافى من بعض الوعكات الصحية التي كان يعاني منها جرّاء تعاطيه الكحول، ومن الظروف النفسية الضاغطة بسبب من حياته العائلية المضطربة. تلك الرحلة هي المرجع الأساسي لكتابه «المذكرات المضادة» الذي صدر عام 1967 بعد سنوات عدة من انقطاعه عن الكتابة، رغم أن الكثير من الأحداث والوقائع التي يسردها في هذا الكتاب، أو يختلقها، حصلت قبل أو بعد تلك الرحلة التي جعل منها إطاراً لذكرياته وخواطره. إن في هذا الكتاب من التلفيق والغرور ما يجعل مستحيلاً أن نعرف أين هي الحقيقة في الحوارات التي أجراها مع ماو تسي تونغ، أو نهرو، أو في لقاءاته مع ديغول، أو تنقيباته الأثرية، أو مآثره خلال الحرب الأهلية الإسبانية التي شارك فيها، مكلّفاً من الحكومة الفرنسية؛ حيث أشرف على تنظيم سرب من الطائرات الحربية الفرنسية التي وضعها في تصرّف الجانب الجمهوري وتولّى قيادتها رغم جهله التام بقيادة الطائرات، أو كمناضل ضد النازيين في المقاومة الفرنسية إلى أن يبدو أنه التحق بها عام 1944 وليس في بداية الحرب كما كان يدّعي.
لكن ثمّة مأثرة في حياة مالرو لا يرقى إليها الشك، وهي المغامرة التي قام بها، وهو ما زال في الثلاثين عمره، برفقة الضابط إدوارد كورنيون مولينيه وشخص آخر، في صحراء اليمن، بحثاً عن مملكة سبأ الأسطورية، التي يصفها ببراعة فائقة. كان مالرو شديد الإعجاب بلورانس العرب، ومولعاً كغيره من الأوروبيين الذين تجذبهم الأماكن الغريبة، وكان دائماً يتدبر أمره ليعثر على ما يريد أن يعثر عليه، بغض النظر عمّا إذا كان موجوداً أو لا. وتشير الدلائل أن ما في تلك الصور التي التقطها من الطائرة التي حلّقت به فوق الصحراء اليمنية حيث كان يعتقد أنه سيجد فيها بقايا مدينة ملكة سبأ، ليس سوى واحة وبعض المنازل التي لا علاقة لها على الإطلاق بالمملكة التاريخية، رغم أن ذلك لم تكن له أهمية تذكر في سرديته الطويلة لتلك المغامرة.
بعد تلك المغامرة يدخل الكتاب في مسار انحداري يفترض أن شخصياته الرئيسية هم ديغول وماو ونهرو، أو مجموعة من المغامرين المشهورين مثل الفرنسي ماري شارل ديفيد دي مايرينا. لكن الشخصية الأهم، في الواقع، هو أندريه مالرو نفسه. والشخصيات الأخرى تتحدث عن مالرو كمن يتحدث عن قامة تاريخية، وفي كل لقاء له معها، يلقي الكاتب دروسه ومواعظه عليها بحيث يمحو كل ما ورد على لسان تلك الشخصيات. إن صاحب «حال الإنسان» لا يكترث لسرد وقائع حياته الخاصة كما يحصل في المذكرات الاعترافية، أو ما لا نراه وراء الحياة العامة كما في مذكرات الزعماء والمشاهير، ولا يبدو مهتماً سوى بدوره هو في الأحداث التاريخية، أو بما تقوله تلك الشخصيات المهمة عن أقواله وأفعاله.
يقول مالرو: «ما يثير اهتمامي عند الناس هو قدرهم، وبعض المواصفات التي لا ترسم شخصية الفرد بقدر ما تبيّن علاقته بالعالم». هذه الجملة التي تلخّص نظرته إلى الشخصيات التي يتحدث عنها في كتابه وأسلوبه في التعاطي معها، تعكس في الواقع دوره في هذه المذكرات التي تدور حول تأثيره في الأحداث التاريخية التي عايشها عن قرب، أو في نظرة تلك الشخصيات إلى الوقائع التي شاركوا في صنعها. ويؤكد الكاتب في موقع آخر، بما يشبه التبرير لشغفه بما نستخلصه من عبر التاريخ، إذ يقول: «لا يهمني… ما يهمني وحدي فحسب»، ويسترسل في نص معقّد ومملّ لا يفضي إلى شيء.
أفضل مقاطع الكتاب هي تلك التي يصف فيها عالم المغامرات التي كان يعشقها، ويحكي مآثر الرحّالة الذين يجازفون بحياتهم لمجرّد المجازفة وركوب المخاطر، والذين يطلق عليهم تعابير لطيفة يتضحّ منها أنه كان يتمنّى أن يكون منهم، أو أنه حاول مرات وعندما تعذّر عليه زعم أنه كان، لأن الحدود الفاصلة بين الأدب والواقع عنده ملتبسة جداً كما يتبيّن من هذا الكتاب.
هذه المواد التي كان يمكن أن تثمر كتاباً شيّقاً تضيع بين صفحات لا نهاية لها من النظريات حول الأحداث التاريخية، والحوارات مع زعماء يضع على لسانها ما يبرّر تلك النظريات. معظم السرديات المتعاقبة في الكتاب ترمي إلى هدف واحد هو خدمة مالرو، أو بعض أصدقائه، مثل نهرو أو ديغول، الذين يبدون أحياناً من تلامذته. وهو يعامل جميع «التلاميذ» بالأسلوب نفسه، ويصفهم بمقاطع لا تنتهي هي ليست سوى إشارات أو خواطر نادرة حول الفن الشرقي الذي كان معجباً به.
لكن وزير الثقافة كان مختلفاً جداً في إدارة الشؤون اليومية، عندما كان يفتتح بيوت الثقافة، وينظّم المعارض الكبرى، وفي الخطب التي كان يلقيها (فضلاً عن رواياته الشهيرة). من أتيح له أن يستمع إليه في تلك المناسبات يستحيل أن ينساه. وصادف أني كنت أعيش في باريس خلال تلك الفترة، وما زلت أذكر وقع تلك الدرر الأدبية بين الجماهير، كما عند رثائه الشهير لبطل المقاومة الفرنسية جان مولان خلال نقل رماده إلى مقبرة العظماء (البانتيون)، أو خلال مراسم دفن المهندس المعماري الشهير لو كوربوزييه في باحة متحف اللوفر بعيد عودته من الشرق الأقصى في عام 1965.
تلك كانت زفرات مالرو الأخيرة كما تبدّى لاحقاً في «المذكرات المضادة» التي ظهرت بعد عام على إلقائه تلك الخطب. هل كان عبقرياً؟ لا شك في أنه كان على طريقته، وكتابه «حال الإنسان» الذي يروي محاولة انقلابية شيوعية فاشلة في شانغهاي تحفة أدبية شاهقة. كما أن خطبه لم تكن جوفاء كخطب معظم السياسيين، بل نصوصاً أدبية رائعة من حيث المبنى والمعنى على السواء. لكن إلى جانب ذلك، كان مالرو مفاخراً بمجده ومبالغاً جداً في غروره. وخطبه النارية التي لا تنسى هي نقيض «المذكرات المضادة»، والدليل على أنه في المرحلة الأخيرة من حياته بلغ ذروة تألقه.