وليد محمود عبدالناصر
لا تزال ردود الأفعال الناتجة من التطورين الأخيرين الخاصين بالمرأة التونسية تتفاعل، واقتضى الأمر بعض الوقت كي يهدأ الجزء العاطفي في ردود الأفعال تلك، سواء المؤيدة أو المعارضة أو تلك التي سعت لتبني منهج وسط، أو تلك التي تقبلت أحد التطورين وتحفظت على الآخر. وللتذكير فإن أول التطورين يتعلق بمسألة منح المرأة التونسية الحق في أن يكون لها نصيب مساوٍ للرجل في الإرث، بينما تعلق التطور الثاني بمسألة منح المرأة التونسية المسلمة الحق في التزوج برجل غير مسلم. ولقد تناول كثيرون، من مختلف التخصصات، الموضوعين، وكان عدد لا بأس به منهم قد تناوله من منظورٍ اعتبروه شرعياً أو فقهياً إسلامياً، ولكننا نسعى هنا للتعامل مع الموضوع من أبعاد أخرى تتصل أكثر بجوانب عملية وحياتية للقضية، ونسعى لتقديم صورة أشمل للموضوع المطروح وخلفياته وسياق تطوره التاريخي ودلالاته اليوم وانعكاساته على جوانب أخرى من الحياة، والحديث بالطبع هنا هو عن أوضاع المرأة في الوطن العربي على سبيل التحديد. ومن ثم فسوف يكون التركيز على جانبين محددين: الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه الموروث التاريخي الناتج من عمليات تراكم تاريخي من جهة وتفاعلات اجتماعية من جهة أخرى، أما الجانب الآخر فهو الواقع الاجتماعي للمرأة العربية، من منظور السياق التاريخي والحالة الراهنة على الأرض.
وإذا بدأنا باعتبارات الموروث الثقافي، يتعين التوضيح أن هذا التعبير يشمل الثقافة كما هي بين الناس، أي ما يطلق عليه في العلوم الاجتماعية الحديثة «الثقافة الاجتماعية»، وليس الثقافة كما يراها البعض لجهة ما يجب أن تكونه، طبقاً لرؤى عقائدية أو فكرية لشخص أو آخر أو تيار أو آخر، فنحن نتعامل هنا مع الثقافة كما هي بالفعل في الواقع العملي. وإذا انطلقنا من هذا التعريف الواسع نرى أن المكون الديني، بمعنى النصوص الدينية وتفسيراتها، مع تعدد وتباين تلك التفسيرات، يشكل أحد مكونات الثقافة الاجتماعية وليس جلها أو حتى الغالب عليها في الكثير من الأحيان. فهناك على سبيل المثال عادات وتقاليد وأعراف اجتماعية تكونت في أزمنة سابقة، وتفاعلت مع واقعها الاجتماعي آنذاك وفي ما بعد في هذا المجتمع أو ذاك، سواء على صعيد محلي أو جهوي إقليمي، وتطورت وتغيرت بدرجة أو بأخرى بمرور الزمن وبفعل هذه التفاعلات لتصل إلى ما هي عليه اليوم في المجتمعات العربية في لحظتنا الراهنة. وحتى لا يكون الحديث بعيداً من الواقع، من المهم أن نشير إلى حالة محددة في ما يتعلق بموضوعنا وهو تأثير الموروث الثقافي في المرأة العربية اليوم. فمن الناحية الفعلية، فإن المرأة في بعض المناطق في العديد من الدول العربية، التي يغلب على سكانها الانتماء للدين الإسلامي، لا ترث نصف ما يرثه الرجل، بل لا ترث على الإطلاق! ولا يعود هذا إلى أي اعتبارات أو تفسيرات دينية بقدر ما يعود إلى اعتبارات هي من صلب الثقافة الاجتماعية السائدة التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة. فالاعتبارات الحاكمة هنا لا تكون نصوص الشرع أو اجتهادات الفقه بل الاعتقاد الموروث بأن ثروة الأسرة لا يجب أن تخرج خارج إطارها، وأن الوسيلة المُثلى لتحقيق ذلك تكون من خلال ضمان أن يقتصر الإرث على الرجال فقط من دون النساء، في ضوء القناعة السائدة في تلك المجتمعات بأن وجود الثروة في يد المرأة يخرجها إلى أيدي زوجها وأبنائها منه، أي إلى أسرة أخرى. ومن هنا يتم التحايل على النصوص الشرعية والقانونية من خلال العديد من الوسائل، منها على سبيل المثال لا الحصر قيام المرأة، جبراً أو اختياراً، بالتوقيع على أوراق تقر فيها أنها تلقت حقها في الإرث من الرجال أعضاء الأسرة، بحيث تقدم هذه الأوراق إلى الجهات القضائية أو الإدارية لإثبات الالتزام (الشكلي في هذه الحالة) بالشرع والقانون، وهو ما يشكل تحايلاً على الاثنين معاً ووسيلة للالتفاف عليهما بما يبدو أنه مخرج شرعي أو قانوني، ولكنه خالٍ تماماً من روح الشرع أو القانون ومقاصدهما وكذلك من إسداء القدر الأدنى من العدالة والقسط لنصف المجتمع أو أكثر، أي المرأة. المكون الآخر هو الواقع الاجتماعي المعاش. ففي ضوء الكثير من العوامل التاريخية والاقتصادية والديموغرافية، حدثت تحولات كبرى في معظم المجتمعات العربية على مدار القرن العشرين، واستمر كثير منها في القرن الحادي والعشرين. ومن أهم هذه التحولات أمران بالغا الدلالة: الأول هو موجات متعاقبة ومختلفة من الهجرات من العديد من المجتمعات العربية إلى خارجها، سواء إلى مجتمعات عربية أخرى، أو إلى مجتمعات غير عربية وغير إسلامية، وفي الحالتين كان الغرض هو السعي وراء كسب لقمة العيش. وفي الغالبية الكبرى من الحالات كانت الهجرة للرجال فقط مع ترك الأسرة بأكملها، وفي مقدمها المرأة، سواء أماً أو زوجة أو أختاً أو ابنة، في المجتمع الأصلي للمهاجر، واستهداف إرسال الدعم لها بما يعيلها ويساعدها على توفير الأسس الضرورية للحياة لأعضاء الأسرة. وأدى هذا التطور إلى واقع اجتماعي جديد، مفاده بأن المرأة هي المسؤولة عن الأسرة، ليس فقط بمعنى المسؤولية الفعلية، بل أيضاً أصبحت المرأة هي التي تخرج للعمل وتتولاه كاملاً في هذه المجتمعات، سواء كان في مجال الزراعة والفلاحة في بعض الحالات أو في مجال الرعي في حالات أخرى أو في مجال الصيد في حالات ثالثة، لأن ما كان يرسله الرجل من تحويلات لم يكن في أغلب الأحوال كافياً لتلبية حاجات الأسرة، بالتالي تعاظم الدور الاقتصادي للمرأة بالتزامن مع تعزز دورها في تحمل المسؤولية الأسرية مكان الرجل.
حدث مثل هذا التطور بدايةً في دول عربية تعرضت للاستعمار وهاجر مواطنوها إلى الدول التي استعمرتها، حيث كانت الهجرة من بلدان الجنوب العربية إلى بلدان الشمال الأوروبية، وحصل ذلك في شكل خاص من البلدان العربية التي تعرضت للاستعمار الفرنسي، وربما في شكل أكثر كثافة من بلدان المغرب العربي. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فمع بزوغ نعمة النفط في بعض البلدان العربية، منذ نهاية الستينات، خصوصاً في عقد السبعينات، حدثت هجرات مماثلة، أساساً للرجال أيضاً، من البلدان العربية الأقل حظاً في الثروة والدخل إلى البلدان العربية الثرية بالنفط، وهي حالة اجتماعية لا تزال معنا حتى اليوم.
ولئن كانت هذه الحالة تصدق على رجال تركوا مناطق غير حضرية، فإنها سرعان ما حلت بالمناطق الحضرية أيضاً، ولكن في شكل مختلف، وهو الأمر الثاني الذي نتناوله في هذا الجزء من المقال، حيث أن البطالة البنيوية أو الطوعية حلت أكثر بالرجال في العديد من المجتمعات الحضرية العربية، فتطورت الظاهرة المسماة بـ «المرأة المعيلة»، أي المرأة هي التي تعمل وتنفق على الأسرة، على رغم أنها لم تتحول إلى أرملة كما أن الرجل لم يهاجر للعمل في بلد آخر، بل هو بقي بلا عمل.
وإذا عدنا إلى المقارنة بين ما تناولناه في الجزء الأول من هذا المقال حول الموروث الثقافي غير المحابي للمرأة في الكثير من المجتمعات العربية، وقارنا بين تلك الوضعية وبين الواقع الاجتماعي المعاش في مجتمعات عربية صارت المرأة فيها هي الفاعل الاقتصادي الأول والمسؤول فعلياً عن الأسرة، سواءً بسبب هجرة الرجال للعمل في بلدان أخرى، عربية أو غير عربية، أو لعدم توافر العمل للرجال، لأدركنا أن إحساس النساء بالتعرض للظلم في العديد من المجتمعات العربية هو إحساس مضاعف، وأنهن يشعرن أنهن عرضة للتمييز، لأنه حتى في الحالات التي تتعرض فيها قطاعات من السكان في هذا المجتمع أو ذاك للمعاناة الاقتصادية والاجتماعية أو غيرها، فإن المرأة تشعر أن معاناتها مضاعفة، باعتبار أنها تشارك الرجل نفس المعاناة العامة، ولكنها إضافة إلى ذلك تتعرض لمعاناة من جانب موروثات ثقافية سائدة تميز ضدها وتضعها في موقف الطرف الأضعف والأكثر تهميشاً على رغم عطائها بلا حدود، وأحياناً بلا مقابل مادي، على مستوى المجتمع والأسرة على حد سواء.
وهكذا تبقى مجمل قضايا المرأة العربية ومعاناتها والتحديات التي تواجهها ومطالبها وتطلعاتها وأهدافها التي تسعى إلى تلبيتها أعم وأشمل من موضوع الإرث أو الحقوق المتصلة بفعل الزواج ذاته، كما أنها تتجاوز الحديث عن نصوص دينية أو تفسيراتها، أو القياس على سوابق تاريخية، فالحالة الراهنة، وإن كانت بالتأكيد نتاج سياق تطور تاريخي معين لهذا المجتمع أو ذاك، لكنها في معطياتها النهائية نتاج تفاعل بين موروث ثقافي، لا يقتصر بالتأكيد على البعد الديني، ولو بتفسيراته المختلفة، وبين واقع اجتماعي معاش يمثل حقيقةً لا مجال لإنكارها أو تجاهل وجودها.