المعادن الأرضية النادرة… صراع المستقبل بين أميركا والصين

1

أحد مصانع معالجة المعادن الأرضية النادرة في ماليزيا

محمد مسعود

على طريق يشوبه الغبار على الحافة الشمالية لصحراء موهافي، تخرج شاحنتان لنقل البضائع حمولة كل منهما 100 طن من هوة عميقة، وحمولاتهما تتكون من المواد الخام. وتعدّ الحفرة التي يبلغ طولها 400 قدم، والتي تقع في سفوح سلسلة جبال كلارك في كاليفورنيا، موطنًا لمنجم المعادن النادرة الوحيد في الولايات المتحدة، وهو منجم ماونتن باس، الذي استأنف عملياته في عام 2012 بعد سنوات من التوقف. 

يوفّر هذا المنجم حالياً نحو 15% من الإنتاج العالمي من العناصر الأرضية النادرة، وهي مجموعة مكونة من 17 معدنًا تُستخدم في صناعات التكنولوجيا التجارية والعسكرية الأكثر تقدّمًا في الولايات المتحدة، وتشمل هذه الصناعات السيارات الكهربائية والغواصات الهجومية من طراز “فيرجينيا”.

ويُعدّ هذا الرقم البالغ 15% أمرًا مهمًا، بخاصة أنّ المنجم لم يكن ينتج شيئًا قبل 11 عامًا فقط، ولكنه لا يزال يمثل جزءًا صغيرًا من السوق العالمية التي تهيمن عليها الصين منذ عقود من الزمن.

ولن تبقى هذه الكمية في الولايات المتحدة لفترة طويلة، حيث يتمّ بيع المواد المستخرجة إلى مصافي التكرير في الصين. وفي نهاية المطاف، يتمّ تحويل المواد المكرّرة إلى سبائك ومغناطيسيات قوية للمستخدمين في جميع أنحاء العالم.

وتقع هذه الحفرة في قلب خطة أميركية جديدة لمنافسة القبضة الحديدية للصين على العناصر الأرضية النادرة. الآن أكثر من أي وقت مضى، يشعر المسؤولون الحكوميون الأميركيون بالقلق من أنّ العجز في القاعدة الصناعية للمعادن النادرة في الولايات المتحدة يجعل البلاد – وبخاصة البنتاغون – عرضةً بشكل متزايد لأي انقطاع في سلسلة التوريد. وتتخذ الإدارة وشركة MP Materials، الشركة المالكة لمنجم “ماونتن باس”، خطوات سريعة لمحاولة سدّ هذا العجز.

الحظر الصيني

في كانون الأول (ديسمبر) 2023، حظّرت الصين تصدير تكنولوجيا استخراج وفصل المعادن النادرة، في خطوة أخرى نحو حماية هيمنتها في العديد من المعادن الاستراتيجية.

وجاء الحظر بعد قيود على تصاريح التصدير لمواد صناعة الرقائق الغاليوم والجرمانيوم في آب (أغسطس) في عام 2023، تليها متطلبات مماثلة لأنواع عدة من الغرافيت منذ 1 كانون الأول (ديسمبر).

ما هي الأتربة النادرة وكيف يتمّ استخدامها؟

الأتربة النادرة هي مجموعة مكوّنة من 17 عنصرًا تُستخدم في منتجات تتراوح من الليزر والمعدات العسكرية إلى المغناطيس الموجود في السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح والأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية مثل أجهزة iPhone.

والمعادن الـ17 هي: اللانثانم، والسيريوم، والبراسيوديميوم، والنيوديميوم، والبروميثيوم، والسماريوم، واليوروبيوم، والغادولينيوم، والتيربيوم، والديسبروسيوم، والهولميوم، والإربيوم، والثوليوم، والإيتربيوم، واللوتيتيوم، والسكانديوم، والإيتريوم.

ما مدى سيطرة الصين؟

من حيث التعدين، استحوذت الصين على 70% من إنتاج المناجم العالمية للعناصر الأرضية النادرة في عام 2022، تليها الولايات المتحدة وأستراليا وميانمار وتايلاند، حسبما أظهرت بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية.

كما تقوم الصين بتكرير 89% من النيوديميوم والبراسيوديميوم في العالم، وهما المعدنان الرئيسيان لمغناطيس المركبات الكهربائية، وهي الهيمنة التي من المتوقع أن تنخفض بحلول عام 2028 إلى 75%، وفقًا لشركة “بنشمارك مينيرال إنتليجينس” الاستشارية.

أما في مجال الصادرات، فقد أظهرت بيانات الجمارك أنّ الصادرات الصينية من العناصر الأرضية النادرة خلال الأشهر الـ 11 الأولى من عام 2023 ارتفعت بنسبة 10% على أساس سنوي إلى 48868 طنًا متريًا.

وتستورد الولايات المتحدة معظم وارداتها من الأتربة النادرة من الصين، لكن هذا الاعتماد تراجع إلى 74% بين عامي 2018 و2021، من 80% خلال الفترة بين عامي 2014 و2017.

أكبر الاحتياطيات

وأظهرت بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية أنّ الصين لديها احتياطيات تقدّر بنحو 44 مليون طن من مكافئات أكسيدات الأرض النادرة، أو 34% من الإجمالي العالمي.

وتشير التقديرات إلى أنّ كلاً من فييتنام وروسيا والبرازيل لديها ما يزيد قليلاً عن 20 مليون طن، في حين أنّ الهند لديها 6.9 ملايين، وأستراليا لديها 4.2 ملايين، والولايات المتحدة 2.3 مليون طن.

كما أظهرت بيانات حكومية في أيلول (سبتمبر) الماضي أنّ الصين زادت حصتها من تعدين المعادن النادرة لهذا العام إلى مستوى قياسي يبلغ 240 ألف طن، بزيادة 14% عن عام 2022.

التوترات تلتهب تحت السطح

وأدّت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي لتايوان إلى تصعيد التوترات في المنطقة إلى مستويات عالية جديدة. وأثار العدد المتزايد من الاتصالات الوثيقة بين الطيارين العسكريين الصينيين والأميركيين فوق المحيط الهادئ العام الماضي، مخاوف في المستويات العليا في البنتاغون، من أنّ سوء الفهم أو العمل الاستفزازي يمكن أن يؤدي إلى صراع شامل.

وقال وزير الدفاع لويد أوستن: “لقد شهدنا زيادة مثيرة للقلق في عدد عمليات الاعتراض الجوي غير الآمنة والمواجهات في البحر من قِبل طائرات وسفن جيش التحرير الشعبي الصيني… هذا يجب أن يقلقنا جميعاً”.

وكل هذا يجعل قدرة الولايات المتحدة على الوصول إلى المعادن النادرة، وهي السوق المهمّة التي لا تزال تهيمن عليها الصين، ضعيفة للغاية.

وقارنت حليمة نجيب لوك، نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون مرونة القاعدة الصناعية، المشكلة مع معاناة واشنطن في العثور على معدات الحماية الشخصية في بداية جائحة كوفيد-19. وقالت في مقابلة: “كما رأينا، فإنّ الواقع هو أنّه إذا أرادت دولة ما قطع الإمدادات لأي سبب، إلى جانب إعطاء الأولوية لأنفسهم فقط، فهذا يعني أنّ الآخرين معرّضون للخطر. من منظور الأمن القومي، نريد إعطاء الأولوية لتلك المجالات حتى نتمكن من تجنّب أي نقاط اختناق”.

وتشهد الولايات المتحدة مثل هذا الاضطراب في سلسلة التوريد للإلكترونيات الدقيقة وأشباه الموصلات بسبب الحرب في أوكرانيا.

وأدّى اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية في شباط (فبراير) 2022 إلى إغلاق المنشآت الأوكرانية التي كانت تنتج ثلاثة عناصر – الكريبتون والزينون والنيون – المستخدمة في تصنيع بعض الرقائق الدقيقة.

وأوضحت نجيب لوك: “أنت لا تعرف مدى ترابط كل شيء حتى تفقد إمكانية الوصول إلى قطعة واحدة من البازل”.

وفي الواقع، منعت بكين ذات مرة وصول اليابان إلى العناصر الأرضية النادرة خلال نزاع عام 2010 بسبب احتجاز طوكيو لقبطان سفينة صيد صينية. ثم في عام 2019، هدّدت الصين بإدراج بعض المنتجات التي تستخدم العناصر الأرضية النادرة في القيود المفروضة على تصدير التكنولوجيا خارج البلاد، رداً على ضغوط إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي”.

الصين تهدّد ولا تبالي

ومن الممكن أن تقرّر الصين بسهولة تقييد الوصول إلى المعادن النادرة مرة أخرى، الأمر الذي قد يؤدي إلى عواقب وخيمة. وتمثل الصين 63% من تعدين العناصر النادرة في العالم، و85% من معالجة المعادن النادرة، و92% من إنتاج الأحجار والمواد الأرضية النادرة، كما تعدّ السبائك والمغناطيسيات الأرضية النادرة التي تسيطر عليها الصين مكونات مهمّة في صناعة الصواريخ والأسلحة النارية والرادارات والطائرات الشبحية.

وقد برز خطر اعتماد واشنطن على بكين في هذه المكونات بشكل صارخ في أيلول (سبتمبر) عام 2022، عندما أوقف البنتاغون عمليات تسليم طائرات F-35 لمدة شهر تقريبًا، بعد اكتشاف أنّ أحجار المغناطيس في الآلة التوربينية للمقاتلة الشبحية مصنوع من سبائك الكوبالت والسماريوم التي جاءت من الصين.

وأوضحت نجيب لوك، أنّ هذه السبيكة، التي يتمّ الحصول عليها من الصين فقط، لا تنقل معلومات حساسة أو تعرّض المقاتلة للخطر، لكن وجود مواد صينية الصنع ربما يكون قد انتهك لائحة الاستحواذ الفيدرالية الدفاعية الجديدة التي تتطلب من المقاولين الكشف عن أي عمل في الصين بشأن بعض العقود العسكرية، وهي لائحة تمّ تصميمها من جانب وزارة الدفاع لتحفيز الاعتماد على المقاولين الأميركيين فقط.

وفي النهاية، منحت وزارة الدفاع الشركة المصنّعة لشركة “لوكهيد مارتن” تنازلاً يسمح لها باستئناف عمليات التسليم لأسباب تتعلق بالأمن القومي. وحتى الآن، تحتوي جميع طائرات F-35 التي تمّ تسليمها إلى الجيش الأميركي – ما يقرب من 600 طائرة – على السبائك الصينية. وبدءًا من ربيع 2023، احتوت الطائرات التي تخرج من خط الإنتاج على سبيكة جديدة تتوافق مع لوائح وزارة الدفاع.

ما الحل؟

تريد شركة MP Materials أن تكون الحل لتحدّي المعادن الأرضية النادرة في أميركا. ويكمن هدف الشركة في استعادة سلسلة التوريد الكاملة إلى الولايات المتحدة، لتصبح الشركة المنتجة الوحيدة للمغناطيسيات الأرضية النادرة.

وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، أعلنت شركة MP أنّها بدأت في تشغيل الأصول للمرحلة الثانية من الإنتاج، والتي تتمّ حاليًا بشكل أساسي في الصين، وهي الفصل والتنقية. وبدأت الشركة أيضًا في بناء منشأة تصنيع جديدة في فورت وورث بولاية تكساس، والتي ستحول المعادن المكرّرة من ماونتن باس إلى معادن وسبائك ومغناطيس.

وقال جيمس ليتنسكي، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة MP Materials: “هذه الصناعة يهيمن عليها الصينيون بالكامل من المنبع. يجب أن يكون هناك بطل أميركي في هذا القطاع”.

وتعدّ هذه القضية شائكة بالنسبة لإدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، التي أعطت الأولوية للطاقة الخضراء.

ولا تزال الأتربة النادرة تُعتبر مكونات أساسية في محرّكات السيارات الكهربائية وبعض البطاريات، لكن بعض المدافعين عن المناخ عارضوا زيادة الإنفاق على تعدين معادن معينة، بما في ذلك منجم الليثيوم المقترح في ولاية نيفادا، بسبب التأثير البيئي المحتمل.

وحتى الآن، واصل بايدن نهج ترامب في تعدين المعادن النادرة، وهو مثال نادر على الاتفاق بين الحزبين. واستندت الإدارة إلى قانون المنتجات الدفاعية هذا العام لزيادة الإنتاج المحلي من المعادن المهمّة، بما في ذلك المعادن النادرة، ودراسات جدوى التمويل وتوسيع المواقع الجديدة والحالية.

وقال جيفري غرين، المتخصص في المعادن النادرة وجماعة الضغط التي مثلت مقاولي المناجم والدفاع، إنّ تعدين ومعالجة المعادن النادرة في الصين يضرّ بالبيئة بشكل خاص. ويجادل بأنّ Mountain Pass طورت طرقًا لتقليل الأضرار البيئية.

ويعدّ “التهديد الأمني” حاداً بشكل خاص بالنسبة لمجموعة من المعادن المعروفة بالعناصر الأرضية النادرة “الثقيلة”. وتنتج الصين وميانمار معًا 100% من العناصر الأرضية النادرة “الثقيلة” في العالم، وفي المقام الأول الديسبروسيوم والتيربيوم.

وقال رايان كاستيلو، مؤسس مجموعة الأبحاث المستقلة “أداماس إنتليجنس”، إنّ العناصر الأرضية النادرة الثقيلة، التي تتميز عن العناصر الأرضية النادرة “الخفيفة” بأعدادها الذرية الأعلى، “تغطي” أقوى مغناطيسيات العناصر الأرضية النادرة لحمايتها من درجات الحرارة المرتفعة، والتي يتمّ استخدامها في الطائرات الشبح والصواريخ والمعدات العسكرية الأخرى.

وتعطي MP الأولوية لإنتاج مركب يتكون من النيوديميوم والبراسيوديميوم، يسمّى NdPr، والذي يشكّل حوالى 99% من العناصر الأرضية النادرة في مغناطيس أرضي نادر. ولكن في مشروع فصل العناصر الثقيلة النادرة المخطّط لها من قِبل شركة MP، فإنّها ستنتج أيضًا الديسبروسيوم والتيربيوم وغيرها من العناصر الأرضية النادرة الثقيلة الضرورية لصناعة المغناطيسيات والمعدات العسكرية. كما أنّ شركة “ماونتن باس” ستكون بشكل تدريجي قادرة على تلبية جميع احتياجات وزارة الدفاع الأميركية من المعادن الأرضية النادرة.

التعليقات معطلة.