طالما ظن العراقيون أن مجرد رفع الصوت أو الاعتراض على السلطة يعني ممارسة المعارضة، لكن الحقيقة أعمق وأشد تعقيدًا. المعارضة الوطنية الحقيقية ليست شعارات على المنصات، ولا بيانات صاخبة تُنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، ولا حتى مظاهرات عابرة لا تستند إلى رؤية واضحة. إنها مشروع شامل، يُعيد للعراق دوره الطبيعي ويضع الشعب في صميم العملية السياسية.
جيل كامل نشأ على فكرة أن المعارضة هي انتقاد السلطة أو التظاهر ضدها، غاب عنه فهم أن المعارض الحقيقي هو من يمتلك القدرة على بناء البديل وليس مجرد هدم الموجود. فالمعارضة الوطنية الحقيقية تبدأ باستقلالها عن المصالح الخارجية والطائفية. لا يمكن لأي جهة وطنية أن تُحسب على المعارضة وهي تتلقى توجيهات أو تمويلًا من قوى خارجية، أو تحمي مصالح فئة ضيقة على حساب البلاد.
الميزة الثانية للمعارضة الحقيقية هي الوعي والكفاءة. قياداتها ليست مجرد وجوه سياسية أو أصحاب نفوذ مالي، بل نخبة مثقفة، قادرة على تحليل الواقع المعقد للعراق ووضع خطط عملية تتجاوز ردود الفعل الفورية. إنها تعرف أن الشعب العراقي لم يعد يقبل الشعارات الرنانة، وأن الطريق نحو التغيير يتطلب برامج واضحة ومتابعة دقيقة.
أيضًا، المعارضة الوطنية لا تتجزأ. هي مؤسسية، منظمة، ولها أدوات واضحة لممارسة الضغط والتأثير دون الفوضى. فهي تبني رأيًا عامًّا وتحرر الشعب من التبعية للأحزاب والسلطات، بدل أن تُترك ساحة الإعلام والسياسة للطائفية والفساد.
الأهم من ذلك، المعارضون الحقيقيون يقدمون رؤية واضحة للمستقبل، لا مجرد انتقاد الماضي والحاضر. لديهم برامج قابلة للتنفيذ، تضمن استقلال القرار الوطني، وتضع مصلحة الشعب فوق أي اعتبار آخر. إنهم الشفّافون أمام جمهورهم، يعترفون بالخطأ، ويصححون المسار بدل الانغماس في الأوهام أو الدفاع عن مصالح ضيقة.
الواقع اليوم أن جيلًا كاملًا لم ير هذا النوع من المعارضة، فغاب عنه الفهم بأن التغيير الحقيقي لا يتحقق بالتصفيق أو الاحتجاج العرضي، بل بالعمل الوطني الجاد، وبناء البدائل، ومواجهة الفساد من جذوره. أي معارضة غريبة عن هذا الإطار لن تكون أكثر من صوت يتلاشى في ضجيج السلطة والفوضى السياسية.
في نهاية المطاف، العراق بحاجة إلى معارضة تستعيد دوره ومكانته، وتعيد للشعب ثقته في مستقبله، لا معارضة مجردة من الكفاءة والمسؤولية. وإلا فإن كل جهد سيبقى أسير الانقسام والطائفية، وكل جيل سيظل يجهل معنى المعارضة الوطنية الحقيقية.