محمد صلاح
لم يدم احتفاء وسائل الإعلام المناصرة لتنظيم “الإخوان” الإرهابي والدول والجهات الداعمة للتنظيم، بتسريب خبر عن قرار أميركي، بحجب جزء من المعونة الأميركية العسكرية لمصر المقرّرة في اتفاق كامب ديفيد، طويلاً. فقبل أن ينصب التنظيم مظاهر الاحتفال، باغته قرار الإدارة الأميركية برفع الحظر عن مبلغ 235 مليون دولار من إجمالي 320 مليون دولار من المساعدة. وبعيداً من سعي اللجان الإلكترونية “الإخوانية” للترويج لخبر الحجب واستخدامه للطعن في الحكم في مصر، ومواصلة مسلسل الإساءة إلى كل شخص أو جهة تعتقد جماعة “الإخوان” أنّها ساعدت في خلع محمد مرسي عن المقعد الرئاسي بعد ثورة الشعب المصري على حكم الجماعة، كان لافتاً أنّ الضجة حول الخبر تزامنت مع بيان أصدرته السفارة الأميركية في القاهرة، وصفت فيه تدريبات “النجم الساطع 2023” بأنّها دليل حقيقي على قوة التعاون العسكري بين الولايات المتحدة ومصر، معتبرة أنّ المناورات “ساهمت في تعميق قابلية التشغيل البيني لكل الدول الشريكة”. ووصف المتحدث العسكري المصري العقيد أركان حرب غريب عبد الحافظ، عقب انتهاء فعاليات التدريب المشترك التي أُقيمت في قاعدة محمد نجيب العسكرية، بمشاركة 34 دولة بأكثر من 8 آلاف جندي، التدريب بأنّه “يُعدّ من أكبر التدريبات العسكرية على مستوى الشرق الأوسط”. وقبل أن ينتشر الجدل حول موضوع المعونة وانتهاء المناورات، كان وزير الخارجية المصري سامح شكرى يتلقّى اتصالاً من نظيره الأميركي، أكدا خلاله وفقاً لبيان رسمي “على عمق واستراتيجية العلاقات المصرية- الأميركية”، و”الرغبة المشتركة للارتقاء بها إلى آفاق أرحب”. لكن الأغرب أنّ منصّات “الإخوان” وصفحات الناشطين الذين تمتطيهم الجماعة، وقعوا جميعاً في تناقض فاضح. إذ بينما كانوا يروّجون لخبر الحجب، كانوا أيضاً يهاجمون المناورات ويعتبرونها “احتلالاً وعمالة وخضوعاً للاميركيين”! ما زال المصريون يتذكّرون مشهداً مخزياً لـ “الإخوان” حين كان بعض عناصر الجماعة يلتقطون صوراً داخل أروقة مقرّ الكونغرس الأميركي وخارجه، يرفعون علامة رابعة، وهم فخورون بإنجازهم الكبير بلقاء بعض النواب الأميركيين، وحضّهم على وقف المعونة الأميركية بشقيها الاقتصادي والعسكري لمصر. هكذا يسير “الإخوان” في أكثر من اتجاه في وقت واحد، للتأثير بالسلب على عبد الفتاح السيسي ونشر الفتن وزيادة المعاناة على المواطن المصري، والمهم لديهم هدم الدولة المصرية على من فيها. في عامي 2021 و2022، حجبت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن 130 مليون دولار من المعونة العسكرية لمصر، من الجزء المرتبط بتحسين حالة حقوق الإنسان. وتمنح الولايات المتحدة مصر 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية سنوياً، نحو 300 مليون منها مرتبط بتحسين أحوال حقوق الإنسان، حينها اشترط الكونغرس اتخاذ الحكومة المصرية إجراءات لتعزيز سيادة القانون، وإصلاحات لحماية حرّية التعبير والتنظيم، ومنح قانون الميزانية للخارجية الأميركية حق إعفاء “القاهرة” من تلك الشروط أو بعضها، إذا كان ذلك لـ “مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة”، فيما لا تمتلك الوزارة الحق نفسه بالنسبة لـ 75 مليون دولار مرهونة باتخاذ إجراءات واضحة ومستمرة بسجل القاهرة في الديموقراطية وحقوق الإنسان. وحضّ السناتور الديموقراطي كريس مورفي إدارة الرئيس جو بايدن على حجب 235 مليون دولار إضافية، امتداداً لمطالبة عدد من أعضاء الكونغرس، في تموز (يوليو) الماضي، بحجب 320 مليون دولار، كوسيلة ضغط على الحكومة المصرية “للحدّ من انتهاكات حقوق الإنسان”. المهمّ أنّ القرار الأميركي برفع الحظر عن مبلغ 235 مليون دولار جاء متسقاً مع الاعتقاد بأنّ العلاقات الأميركية – المصرية في عهد الرئيس بايدن تمضي بلا معضلات، إلاّ معالجة الآثار السلبية التي تركتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما مع الحكم في مصر، خصوصاً في ظلّ توافق الرؤى لدى بايدن والسيسي في شأن ملفات عدة، على رأسها مواجهة الإرهاب والدور المصري المهمّ بالنسبة للقضية الفلسطينية، والتدخّلات السريعة لوقف كل قتال ينشأ بين الفلسطينيين والاسرائيليين، إضافة بالطبع إلى تفهم الأميركيين، وأصدقائهم الإسرائيليين، لملف جهود مصر في القضاء على الإرهاب في سيناء، مقابل دعم إدارة أوباما لـ “الإخوان”، وإيمانها بنظرية تقوم على ضرورة منحهم الفرصة لحكم مصر ودول عربية أخرى، بدعوة أنّ الجماعة سلمية وتمتلك القدرة على استيعاب خطورة التنظيمات الراديكالية الأخرى كـ”داعش” و”القاعدة”. وما يخرج عن مسؤولين في الكونغرس الأميركي من تصريحات، تبدو مخالفة لمواقف الادارة هناك، وتعكس تعاطيهم مع الأزمة وكأنّها مجرد خلافات في وجهات النظر، أو كأنّها مجرد نزاع تجاري أو حدودي. عموماً لا يتعلق الأمر بإدارة بايدن فقط، فالتناقضات بين سياسات وتصريحات ومواقف الرئيس الأميركي وجهات تابعة لإدارته، تعكس نموذجاً أميركياً في الحكم، وتكرّرت في إدارات سابقة، ويتسع التناقض أو يضيق بحسب شخصية الرئيس ومدى الكاريزما التي يتمتع بها وقدرته على التعامل مع الدولة العميقة! لاحظ هنا أنّ الأشخاص والجهات ومؤسسات المجتمع المدني الأميركية التي ما زالت تؤيّد “الإخوان”، أو قل تتغاضى عن أفعال الجماعة وتضغط من أجل منح الفارين منهم لجوءاً سياسياً أو إقامات في أميركا أو دول أوروبية وتغضّ الطرف عن جرائمهم، هم أنفسهم الذين كانوا، وبعضهم لا يزال، يتعامل مع قادة “الإخوان”، ويصدرون لهم التعليمات، وهي نفسها الجهات التي نسَّقت مع الدوحة لاختيار كل مجتمع جرى العمل على نشر الفوضى فيه وكل دولة وضعت الخطط لإسقاطها. أجهزة الدولة العميقة في الولايات المتحدة، كما في دول أخرى عدة، أقوى من أي رئيس، وهي التي ترسم له حدود صلاحياته، بغض النظر عن مواد الدستور. وإذا وقع الصدام بين الرئيس والدولة العميقة وكان لا مفرّ من منتصر ومهزوم، فالمؤكّد أنّ الدولة العميقة ستبقى وستستمر وسيرحل الرئيس!حدث هذا في مصر حين أراد مرسي “أخونة” الدولة، فأطاحت الدولة العميقة وأجهزتها بمرسي نفسه وجماعته، وانتصرت الأجهزة العميقة للإرادة الشعبية. وقفت الدولة الأميركية العميقة حائلاً دون موقف صارم تجاه “الإخوان” كجماعة إرهابية، لكن الأجهزة التي ترى أنّ في صالح الولايات المتحدة أو ربما في صالح الأجهزة نفسها الإبقاء على خيوط اتصال مع تلك الجماعة، حتى لو كان الثمن هو إحراج الإدارة او الرئيس، وكذلك فإنّ عدم ترجمة مواجهة الارهاب إلى مواقف عملية ضدّ “الإخوان” ربما يعود إلى أنّ أجهزة الدولة العميقة تخشى فضح ماضيها الزاخر بخطط وترتيبات ولقاءات، جرى فيها رسم خرائط للمنطقة وحبك مؤامرات لتدريب ناشطين على إحداث الفوضى وتحديد موازنات للإنفاق على أنشطة تنظيمات وجماعات، كانت الولايات المتحدة تنتقدها أو تهاجمها أو حتى تحاربها في العلن وتستخدمها في السرّ. مشهد وفد “الإخوان” في الكونغرس تكرّر كثيراً، فزياراتهم ومحاولاتهم التقرّب إلى كل إدارة أميركية مسألة معروفة، بغض النظر عمّا يُظهرون من عداء أو كراهية للأميركيين، أو تلك الهتافات التي كانوا يطلقونها في تظاهراتهم، أو خطابهم الإعلامي والسياسي الذي يحوي كثيراً من الاتهامات لكل نظام مصري بالعمالة لحساب الأميركيين! لكن الجديد كان أنّ بعض عناصر الوفد وضعوا حول أعناقهم ربطات عنق على شكل العلم الأميركي، كما أنّ سيدات ضمن الوفد حولن العلم حجاباً التف حول رؤوسهن، والمدهش أنّ أحداً ممن وقفوا مبهورين أمام مقر الكونغرس لم يخجل من شكل ربطة عنقه أو الحجاب. معروف أنّ التنظيم نجح، على مدى عقود، في نصب شبكة مصالح، وأسّس علاقات سرطانية داخل مؤسسات أميركية عدة، ولأنّه تنظيم غير قُطري بالأساس، أي لا تقتصر العضوية فيه على أبناء دولة بعينها رغم نشأته المصرية، فإنّ كل عضو مطالب في مرحلة ما بعد إزاحة “الإخوان” عن الحكم بعد ثورة الشعب المصري على الجماعة، بالعمل على الثأر من السيسي والشعب المصري، وتحسين صورة “الإخوان” في الغرب عموماً وفي الولايات المتحدة خصوصاً، وبذل كل جهد ممكن في سبيل عودتهم إلى حكم مصر، حتى لو كان الثمن مثل ذلك المشهد المخزي!
المصدر: النهار العربي