يوسف الدينيباحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
لا يقف التحيز الذي تعيشه الولايات المتحدة في مقاربة إدارة بايدن لملف غزة على تلك اليد المرفوعة ضد قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار الذي سعت إليه السعودية ودول الاعتدال من اللحظة الأولى للأزمة؛ بل يمتد اليوم إلى الانتباه المتأخر لمعضلة أخرى وهي أمن الممرات الدولية في مضيق باب المندب بعد أن استهدفت ميليشيا الحوثي السفن، وهو الأمر الذي حذرت منه المملكة منذ سنوات من دون أذن صاغية وبتردد كبير في تصنيف الميليشيا وإدانة ما قامت به في تهديدها لأمن السعودية والخليج والممرات الدولية التي يعتمد عليها اقتصاد العالم.
واليوم كرّست السعودية في مقاربتها الاستثنائية على مستوى العلاقات الدولية نموذج الحزم والأمل وتقاليد الدولة العريقة في العقلانية السياسية من دون التحيّز أو الركون لردود الفعل التي ما زالت الولايات المتحدة غارقة فيها منذ سياسات التخلّي وترحيل الأزمات ومفاقمتها نماذج في أفغانستان، والعراق، وشمال سوريا ومخيمات عائلات التنظيمات الإرهابية، وليس آخرها مغامرات ميليشيا الحوثي التي أكدت السعودية حسب تقرير نشرته «رويترز» ضرورة أن تقوم واشنطن بضبط النفس في الرد على الهجمات التي يشنها الحوثيون في اليمن كما هي الحال ضرورة احتواء تداعيات الحرب بين «حماس» وإسرائيل، عبر وقف إطلاق النار والهجمات الوحشية وفقاً للتوصيف الذي نقلته الوكالة.
المقاربة السعودية التي تعكسها دبلوماسيتها الجديرة بالدراسة والبحث كنموذج للعقلانية تهدف بشكل أوسع إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي بعد سنوات من المواجهة مع إيران وحلفائها، ومن ذلك سعيها الدؤوب، رغم كل السلوك الحوثي في الارتهان لخيارات طهران والتدمير الممنهج لليمن وتجريف هويّته، إلى دفع عملية السلام في اليمن حتى مع احتدام الحرب في غزة، خشية أن تخرج عن مسارها، هذه العقلانية أثمرت عاماً من الهدوء النسبي وسط محادثات سلام متأرجحة، لكنها قطعت شوطاً كبيراً بفضل العقلانية السعودية.
اليوم بسبب هذا التحيّز الدولي في التعامل مع المنطقة تم إطلاق صفارات القلق في مراكز البحث وخزانات التفكير حول مستقبل الممرات الدولية بعد المغامرات الحوثية ضمن استراتيجية «الحرس الثوري» الإيراني في إدارة الجبهات، وكتبت العديد من الأوراق البحثية عن بدء التفكير في تحويل مسار السفن خوفاً من التهديدات التي ربما تنفلت لتشمل أجندات مختلفة من القراصنة إلى الميليشيات، وهو ما سيجعل من تأجيل بناء تصور واضح لأزمات الشرق الأوسط المترابطة يتجاوز مسألة السفن إلى تداعيات اقتصادية وأمنية أوسع نطاقاً بكثير من استهداف الممرات الآمنة.
وللتاريخ، أطلقت السعودية في وقت مبكر منذ 2018 التحذير من إهمال الوضع الأمني، والتساهل مع نمو وتصاعد منطق الميليشيا في مقابل منطق الدولة بعد أن تزايد التهديد المتصل بالأمن البحري، لا سيما بعد استهداف ناقلات النفط الخام لشركة «البحري»، وهي الشركة الوطنية، وعلّقت وزارة الطاقة السعودية شحنات النفط عبر المضيق قبل أن تقوم بمعالجة الأزمة وبشكل منفرد وسرعة كبيرة للسيطرة على مدة التعطيل.
اليوم يجب أن تؤخذ المسألة بجدية أكبر، وبنطاق أوسع، ضمن المقاربة السعودية التي تحاول التركيز على إيقاف إطلاق النار ومعالجة ملف اليمن وطرح نموذج منطقة الرفاه والاستقرار والمستقبل، ومن هنا يجب إعادة تقييم واقعية لسلوك ميليشيا الحوثي ضمن معالجة للحالة اليمنية وعدم تجاهل التصعيد المقلق في شؤون الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.
هناك مخاوف حقيقية لدى الخبراء من نمذجة الحوثيين لأنفسهم على طريقة كوريا الشمالية من دون سلاح نووي، وحالة ما قبل الدولة التي تعيشها اليمن بسبب ازدواجية التعامل مع الملف اليمني وعدم الاستماع للرياض سيحول الحوثيين إلى مكون خارج منطق الدولة بالكامل، في دولة تقبع تحت معضلات كبيرة منها 60 مليون قطعة سلاح، وشارع مشحون بشعارات جوفاء على طريقة جمهور الضاحية لـ«حزب الله»، ويمكن ملاحظة حجم التقارب اليوم حتى على مستوى الطقوسية والترميز والتحشيد.
اليوم يجب دعم اليمن عبر رؤية التحالف وإعادة تثمين للمقاربة السعودية «الحزم والأمل»، وإعادة ترميم ما تبقى من مؤسسات الدولة والشرعية من الدفاعات إلى الحفاظ على المناطق الخارجة عن نطاق سيطرة الميليشيا، وهو ببساطة ما يسمى «إعادة فرض الردع»، عدا ذلك سنظل نتأرجح بين ثنائية ترحيل الأزمات أو الهروب من تبعاتها وتضخيم منسوب الأزمة على طريقة القفز من القوارب الغارقة!