عبدالحسين الهنين
أعاد مجلس النواب العراقي مشروع الموازنة العامة للسنة المقبلة (2018) الى لجنته المالية لتفتح نقاشاً آخر مع الحكومة حول الاعتراضات التي يبدو أنها رسائل انتخابية موجهة الى جمهور الكتل البرلمانية في المحافظات المختلفة، بدلاً من أن يتم التعامل مع الموازنة على أن أرقامها تمثل دلالات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويفترض من خلالها الكشف عن مختلف أغراض الدولة واهدافها عن طريق تحليل أرقام الإيرادات والنفقات العامة التي تجمعهما هذه الوثيقة المهمة التي تصدر بقانون بحسب الدستور
لكن الواضح والثابت أن موازنة 2018 لم تكن مختلفة عن الأعوام السابقة ما عدا شطارة الحكومة في اعادة توزيع الأرقام بشكل مختلف ليظهر العجز فيها دون مستوى العام السابق، فلم نجد أي تغيير جوهري، والحكومة العراقية وتحديداً وزارة المالية، ما زالت تتعامل مع الموازنة على أنها مجرد بيان يتضمن الإيرادات العامة والنفقات العامة، بينما كان يفترض بها أن تتعامل مع هذه الوثيقة المهمة على أنها الأداة الرئيسة التي يمكن عن طريقها تحقيق أهداف الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية..
ورغم أن موازنة 2018 ليست عالية التخصيصات كالموازنات الماضية.. لكنها كسابقاتها ظهرت هزيلة في تحقيق الآمال في تنمية القطاعات الحقيقية للبلاد، فقلّة الأموال والاقتراض من الخارج، لا يبدوان سببين معقولين للاستمرار على نفس الخطى السابقة. والواقع أن البلاد لا تنقصها الأموال بقدر نقصان المفاهيم والإجراءات السليمة في توجيه الأموال نحو أهدافها الحقيقية التي يفترض أن تكون فلسفة بناء أية موازنة ولأيّ بلد كان .
تكشف طريقة إعداد الموازنة العراقية مرّة أخرى عن الاختلال الهيكلي الواضح من خلال عدد من السلبيات تتجسد في صعوبة التعرف على برامج العمل والمشروعات التي تنوي الحكومة القيام بها، فضلاً عن صعوبة قياس كفاءة الوحدات الحكومية المختلفة باعتبارها تشكّل الانعكاس الواقعي لها وكذلك الاستمرار في وضع تقديرات بُنيت على أساس متوسط، تقديرات لعدد من السنوات المالية السابقة أو في ضوء الإنفاق السابق وليس على حاجة فعلية وأهداف واضحة تسعى الحكومة الى تنفيذها. يضاف الى ذلك غياب الرقابة والمتابعة على المشاريع التي ذكرت في قانون الموازنة الذي لم يستند إلى أي حساب ختامي للموازنات السابقة بسبب غيابها وتجاهلها، حتى اصبحت سياقاً طبيعياً في البلاد، ممّا يوفر بيئة لاستمرار تردي الخدمات الحكومية ومستلزمات الانتاج الضرورية لعملية تنمية واعدة. كما لم توفر معايير واضحة لقياس الاداء الحكومي في ظل غياب الحسابات الختامية (Final account) التي تشكّل اهمية بالغة في محاربة الفساد والهدر ومدى صحة تقديرات الموازنة العامة ومطابقتها للواقع لأنها تتضمن النفقات العامة التي أُنفقت، والإيرادات العامة التي تمت جبايتها للسنة المنتهية، فالحسابات الختامية تختلف عن الموازنة، لأنها تتضمن أرقاماً حقيقية فعلية يجب أن تكون دقيقة، بينما الموازنة العامة تتضمن أرقاماً تقديرية، ولا معنى لأيّ موازنة دون أن يتبعها حساب ختامي يصدر بعد سنة من اقرارها. وللأسف هذا ما يجري في العراق بشكل معتاد ولا يشكل أي اهتمام لدى الطبقة السياسية. ويمكن القول إن الموازنة حققت هدفاً واحداً هو توفير الاستقرار النفسي لموظفي الحكومة فقط لسنة مقبلة فقط. وقد تكون الحسنة الوحيدة في موازنة 2018 أنها اقتربت من تحقيق قاعدة التوازن بين النفقات والإيرادات، حيث ضاقت الفجوة الى حد كبير، وظهر أن العجز كان بسبب ظروف اقتصادية وسياسية، لكن قبول فكرة وجود عجز محدود لا يعطي التبرير بأن يُغطى عن طريق القروض الدولية، وهو الطريق الأسهل حالياً بسبب مساندة العالم للعراق لأهميته العالمية في الحرب على الإرهاب.
على مستوى وظائف الموازنة، لم نجد تخطيطاً واضحاً مرتبطاً بها أو أرقامها، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: الى متى يستمر العراق في عدم وجود تنسيق بين الخطط إن وجدت، مع الأموال التي وضعت في الموازنة العامة للبلاد؟ وينطبق الأمر كذلك على عدم ترجمة الاهداف الى مشروعات وأنشطة محددة ولا بوجود علاقة للموظفين بالسياسات والخطط التي يفترض أن تضعها الدولة لتنفيذ برامجها من ارقام الموازنة التي هي أموال الشعب الواجب حمايتها بحسب مواد دستورية، فمثلا:-
– افترضت الموازنة أن العراق سيصدّر نفطاً بمقدار 3 ملايين و880 ألف برميل يومياً بزيادة مقدارها 640 الف برميل، وهذا يعد مبالغة غير محسوبة وقد تزيد العجز المتوقع في الموازنة من 8 مليارات و307 ملايين دولار ليصبح اكثر من 20 مليار دولار. وليس سراً أن العراق قد تورّط باتفاق تجميد الإنتاج مع السعودية وروسيا.
– هناك مبالغة في تقدير الواردات غير النفطية حيث كانت بحدود 11.7 مليار دولار، مما يجعلنا نتوقع أن تقسو الحكومة على المواطنين في الضرائب والجباية والرسوم وغيرها، لعدم وجود طبقة (بورجوازية) صناعية أو زراعية حقيقية دافعة للضرائب بانتظام، ويبدو أن الحكومة خفضت العجز التقديري من 26 ملياراً في 2017 الى 11 ملياراً في 2018، لتحمل ثلثه على جباية الرسوم والضرائب امتثالاً لشروط صندوق النقد الدولي، حيث لم ينتج هذا الانخفاض في العجز عن تطور اقتصادي بل نتيجة لإعادة خلط الأرقام وتوزيعها بشكل مختلف، علماً أن الكثير من ارقام العجز لم تكن حقيقية قبل 2014 لكنه اصبح عجزاً حقيقياً بعد التراجع الكبير لأسعار النفط والإنفاق الواسع في الحرب ضد الإرهاب، فضلاً عن الفساد والهدر في المال العام..
– تشكّل النفقات التشغيلية نسبة 76.5% من حجم الموازنة وهذا يشكّل تراجعاً عن شعارات الدولة الاقتصادية في أنها ستزيد النفقات الاستثمارية وتقلل من النفقات التشغيلية.
– تمويل العجز جاء من خلال طريق واحد سهل، لكنه مدمّر هو الاقتراض من الخارج تبدأ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي ولا تنتهي ببنوك خليجية وعالمية مختلفة ..
– اعتماد سعر 46 دولاراً للبرميل يعد مجازفة أخرى، حيث لا يمكن الاطمئنان للأسعار الحالية والتي اتوقع شخصياً أن تعاود الهبوط خلال أشهر قليلة بعد زيادة الحفارات في مجال النفط الصخري.
الاستنتاج :-
– مازالت موازنتنا عبارة عن متوالية عددية يعدها موظفون مترهلون في وزارة المالية من خلال جمع وطرح الأرقام ليس إلا، ولا يوجد في الموازنة أي أهداف تنموية واضحة سوى أنها استمرار في تخدير فئة واحدة من الشعب، هم الموظفون، لضمان السكوت اكبر مدة ممكنة أو لغاية انتخابات 2018 .
– انخفاض العجز لم يكن نتيجة تطور اقتصادي، بل بسبب زيادة في أسعار النفط وزيادة في جباية الرسوم والضرائب.
– لستُ متشائماً، بل متفائل بزخم العراق الكبير، لكنني اعترض على الاستمرار بالطريقة الروتينية لإعداد الموازنة، وأسعى للضغط بغرض التوعية بهدف إصلاح الإدارة المالية للبلاد.