المياه في سوريا: عطش اليوم وكوارث الغد

1

الرأي

فايز سارة

فايز سارةكاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.

لا تنفرد سوريا بمواجهة مشكلة مياه في شرق المتوسط، فهذه حالة قائمة في عموم بلدان المنطقة (باستثناء تركيا)، حيث تواجه كل البلدان بدرجة أو أخرى مشكلات تتصل بالموضوع، لكن المشكلات السورية في هذا الجانب هي الأكثر خطورة وصعوبة، ليس فقط بسبب واقع المياه فقط، وإنما أيضاً بسبب ما لحق بحالة المياه السورية من تداعيات ناتجة من الحرب في سوريا وحولها.

وتبين نظرة عاجلة لواقع المياه في سوريا، تميزها بمجموعة صفات؛ الأولى فيها أن المياه الجارية مياه تشاركية. إذ تتشارك سوريا مع بلدان الجوار أغلب منابع ومصبات أنهارها، ما يجعل الاستفادة منها رهينة تفاهمات واتفاقات مع بلدان المنبع وبلدان المصب في الجوار، التي تشمل تركيا في الشمال والصلة معها في نهري الفرات وبعض روافده ودجلة، وتتشارك سوريا مياه الفرات ودجلة مع العراق في الشرق، فيما تتقاسم مياه وادي اليرموك مع الأردن في الجنوب، ومياه العاصي مع لبنان في الغرب، ومع تركيا في الشمال الغربي.

والصفة الأخرى في المياه السورية، خضوعها لتأثيرات مناخية عاصفة، تواصلت في العقود الأخيرة، أدت إلى تراجع كميات الأمطار لأسباب تتشارك فيها تأثيرات عامة، وأخرى خاصة، مما كرس ظاهرتين، تراجع كميات المياه الجارية، وتدهور مخزون المياه الجوفية.

والصفة الثالثة، إخضاع المياه طوال عقود مضت إلى سياسات غير منظمة وعشوائية في الغالب ولا عملية، بل وارتهانها إلى فساد إداري وتنظيمي ومحاباة النافذين والمقربين في أغلب الأحيان وفي كل المناطق، ولعل المثال الأكثر سوءاً في تلك السياسة، كان تعميم الاستخدام الواسع للمضخات، التي سحبت المياه من أسرة الأنهار، فأدت إلى تجفيف بعضها، وذهبت إلى استنزاف المياه الجوفية.

وأعادت سنوات العقد الماضي رسم ملامح إضافية للمياه السورية عبر خلط صفاتها الأساسية مع تأثيرات الحرب والصراعات السياسية على الوضع المائي، مما رتب جملة حقائق؛ أبرزها انهيار وحدة إدارة المياه بكل سيئاتها، مما جعل المياه بكل تفاصيلها بيد مرجعيات مختلفة ومتعددة، ليس لديها أي قدرات وخبرات معرفية وتقنية، وإن توافرت فإنها محدودة، ما جعل موضوع المياه عرضة للعشوائية عموماً، وللمصالح والسياسات المتنافرة والكيدية أحياناً.

والحقيقة الثانية، التي أفرزتها الحرب على واقع المياه، يمثله انتشار التلوث بطرق متعددة، والأبرز فيه ثلاثة اختلاطات، أولها اختلاط المياه بالنفط ومشتقاته، وهو أمر لم يقتصر على أماكن استخراج النفط في شرق وشمال شرقي سوريا، بل امتد في أماكن التكرير البدائي، التي تفشت في كثير من المناطق، والاختلاط الثاني، كان في تسلل مياه الصرف الصحي إلى شبكات مياه الشرب وخزانات المياه الجوفية، وربما كان المثال الأوضح لهذه الحالة في مناطق السكن العشوائي، التي تمت إقامتها على عجل لإيواء مئات آلاف النازحين والمهجرين في الشمال الغربي، وهو وضع تفاقم مع مرور الوقت، وثالث حالات الاختلاط، يكمن في التعدي على المجاري المائية، وجعلها مكباً للنفايات أو بقربها، وتحويل مسارات الصرف الصحي عليها من المناطق السكنية والصناعية، كما حدث في حمص وغوطتها وفي ريف دمشق.

وثمة تأثير مهم على المياه السورية في ظل الحرب، مارسه جيران الشمال عبر أمرين؛ أولهما تخفيض الحصة السورية – العراقية، التي تمررها تركيا من مياه الفرات، وتردٍ في نوعية المياه الممررة، كما تشير بعض التقارير، وليس جهة تدقق في الموضوع، بل إن سوء العلاقات بين تركيا و«مجلس سوريا الديمقراطية»، يفاقم التصرف التركي في الملف.

والجانب الآخر من التدخل التركي، هو التحكم بالمصادر المحلية للمياه في مناطق السيطرة التركية شمال غربي سوريا، ومثاله الأوضح فتح السلطات التركية عام 2020 بوابات تصريف المياه في سد بحيرة ميدانكي قرب عفرين لاستجرار المياه إلى سد الريحانية في ولاية هاتاي التركية، ما خفض مخزون البحيرة إلى النصف.

خلاصة اللوحة القاتمة لحالة المياه السورية، تؤكد تدهورها من الناحية الكمية أولاً، والنوعية ثانياً، ما يهدد وجود وحياة السكان، ليس من خلال نقص الكمية وسوء المياه المنزلية فقط، بل وعدم القدرة على توفير الغذاء والكهرباء نتيجة نقص المياه، ويمتد أثر تردي المياه إلى بقية الأنشطة من صناعة وسياحة، بخاصة أن سوريا ستدخل لاحقاً بوابة إعادة إعمار، وتكون بحاجة إلى مزيد من المياه لأعمال البناء.

إن تأمين احتياجات السكان الأساسية من المياه المنزلية، يتم بصعوبة في كل المناطق، وسط تكاليف عالية. وحالة مياه الزراعة مماثلة تقريباً، رغم دمج المصادر المختلفة من أمطار ومياه جارية وجوفية، وتحمل صعوبات سحب المياه الجوفية بسبب تكاليف الطاقة الكهربائية والمحروقات النفطية، وثمة عجز واضح في استخدام المياه في توليد الكهرباء، وتصل نسبة العجز نحو 70 في المائة بسبب انخفاض منسوب السدود.

إن وضع المياه على ما هو عليه يضع القسم الأكبر من السوريين عند مستوى العطش، واستمرار الحال سوف يأخذهم إلى الأسوأ، فيضرب أمنهم الغذائي عبر العجز عن إنتاج الغذاء، لا سيما القمح والخضار، ويأخذهم إلى فقدان الأمن الصحي في انتشار الأمراض والأوبئة ومنها الكوليرا، وسيضيف تدهور وضع المياه تدمير ما تبقى من صناعات إنتاجية أو استخراجية، إضافة للأنشطة الخدمية، وهذا بعض ما يدعو السوريين والمهتمين بالوضع السوري إلى إطلاق جهود عاجلة لمواجهة أوضاع المياه قبل أن تصل إلى عمق كوارث، تصعب معالجتها.

التعليقات معطلة.