النجاة من الحقيقة!

4

«لقد نسوا التعسف والفساد والتجسس والعزلة والخوف، فقد تحول الرعب إلى أسطورة». حين أعدت قراءة رواية «حفلة التيس» لماريو بارغاس يوسا بعد ثماني سنوات من قراءتي الأولى لها، لم أواجه النص نفسه، بل وجدتني أمام مفهوم مختلف للخوف.

 

ففي القراءة الأولى بدا الخوف مباشراً وصاخباً ومرتبطاً بالعنف والبطش السياسي، أما اليوم فيظهر الخوف أكثر تعقيداً وأشد مراوغة، خوف لا يفرض نفسه بالقوة، بل يعاد تنظيمه داخل الوعي، ويقنع الأفراد بأن النجاة تكمن في التكيف لا في المواجهة.

ولا يتعلق جوهر هذه العبارة بإحصاء ما تم نسيانه، بل في ما آلت إليه الذاكرة نفسها، فإن يتحول الرعب إلى أسطورة لا يعني أنه اختفى، بل أعيد إدخاله في سردية مريحة تنهي مطالبته بأي موقف أخلاقي، وليست المسألة محواً للوقائع، بل إعادة ترتيبها بحيث تبقى معروفة، لكنها بلا أي قدرة على الإدانة.

 

من هذا المنظور، تنتمي رواية حفلة التيس إلى تقليد الروايات السياسية الكبرى في القرن الماضي، تلك التي لم تكتب عن السلطة بوصفها حدثاً عابراً، بل عن أثرها العميق بعد انكسارها، فهي لا تتوقف عند توصيف الطغيان، بل تنتقل إلى ما يحدث بعده، في كيفية إعادة ترتيب الذاكرة.

 

واستبدال الاعتراف بالتجاوز، وزعزعة الاستقرار، فالحقيقة الكاملة – حين تكون مكلفة – لا تُنكر بل تُجزأ ويُحتفظ منها بما يسمح بالاستمرار دون مساءلة، وهنا تبدأ الهشاشة الفكرية في المجتمعات التي تدور في فلك هذه السياسة.

والأخطر من ذلك أن الرواية التي تحدثت عن نظام رافاييل تروخيو، الذي حكم جمهورية الدومينيكان لأكثر من ثلاثة عقود بنظام شديد القسوة قائم على القمع والمراقبة والولاءات القسرية، لم يعتمد على الجهل، بل على المعرفة المروضة، فالجميع كان يعرف.

 

لكن المعرفة لم تترجم إلى مقاومة، بل إلى حذر وصمت مدروس، والنجاة لم تكن في عدم الرؤية، بل في التظاهر بأن ما يرى لا يستدعي موقفاً، وهكذا تحول الخوف من رد فعل إلى نظام عمل، ومن شعور طارئ إلى قاعدة حياة!

ومن هذا المنطق، يمكن ملاحظة الآلية نفسها في بيئات العمل، بوصفها فضاءات تدار وفق أنظمة حوكمة وإجراءات يفترض أن تقوم على الوضوح والمساءلة، نراها حين يستبعد شخص ذو مؤهلات عالية من موقعه أو ينقل فجأة من مهامه من دون توضيح مهني كافٍ، يعرف الزملاء أن القرار لم يكن تقنياً بحتاً، وتدور أحاديث جانبية عن أسباب غير معلنة، لكن الخطاب الرسمي يكتفي بتعابير عامة مثل إعادة تنظيم أو تغيير في الأولويات.

 

في مثل هذه البيئات، لا يفترض أن تدار القرارات الكبرى بالصمت، ومع ذلك لا يقدم تفسير واضح، ولا يفتح نقاش حول ما جرى، بل يتوقع من الجميع التعامل مع القرار بوصفه إجراء طبيعياً لا يستدعي التوقف عنده، ومع مرور الوقت، لا يعود السؤال عما حدث مقبولاً، ليس لأن الحقيقة كشفت، بل لأن إثارة الموضوع تفسر على أنها تشكيك في المسار المؤسسي أو إخلال بروح الفريق.

 

وهنا لا يعاد تعريف المهنية بوصفها التزاماً بالحوكمة والشفافية، بل بالقدرة على الصمت والمضي قدماً من دون طلب تفسير، حيث تبقى الواقعة معروفة في الذاكرة الجماعية للمكان، لكنها مفصولة عن أي نقاش علني حول العدالة أو المسؤولية أو ما ينبغي تعلمه مما حدث!

ويترسخ هذا النمط عبر إعادة تعريف التكيف بوصفه سلوكاً عقلانياً ومسؤولاً، حيث يشاد بمن تجاوز ولم يعقد المسار، لأن الاستمرار من دون مساءلة أصبح معياراً ضمنياً للنضج، ومع الوقت لم يعد الصمت استثناء، بل تحول إلى مهارة مكتسبة، تخضع للمعايير المهنية والاجتماعية الحديثة، وهكذا يتعامل مع التجربة بوصفها أمراً تم تجاوزه.

 

بينما تبقى أسبابها بلا تعريف يتيح فهمها أو البناء عليها. ويبقى السؤال هنا، ماذا يخسر المجتمع أخلاقياً وإنسانياً حين يختار النجاة من الحقيقة بدل مواجهتها، وحين يقايض الوعي الكامل بنصف ذاكرة أقل إيلاماً؟

التعليقات معطلة.