النظامُ السياسيّ في ألمانيا: دروسٌ لرحلةِ العراق نحوَ الاستقرار والازدهار

1

النظامُ السياسيّ في ألمانيا: دروسٌ لرحلةِ العراق نحوَ الاستقرار والازدهار

لقمان عبد الرحيم الفيلي

 في قلب أوروبا، تقفُ ألمانيا شاهداً على قوة التحول، والقدرة على الصمود والوئام الداخلي، والحكم الديمقراطي، بعد خروجها من الدمار الذي خلفته الحرب العالميَّة الثانية، إذ تمكنت ألمانيا من إعادة بناء نفسها لتصبح قوة اقتصاديَّة عالميَّة مع ضمان استقرارها السياسي. يقدمُ نظامها السياسي، المتجذر بعمق في المبادئ الديمقراطيَّة، ثروة من الدروس لدولة مثل العراق، التي لا تزال تكادحُ من أجل تعميق تجربتها الديموقراطيَّة وإنضاج نظمها السياسيَّة وتتصارع مع تاريخها وسياساتها المتداخلة والمعقدة. في هذه المقالة، سنستكشف الجوانب الرئيسة للنظام السياسي الألماني ودروسه العميقة التي يمكن للعراق الاستفادة منها في سعيه نحو الديمقراطيَّة والاستقرار والازدهار.

– التطورات السياسيَّة والمصالحة الداخليَّة

شهدت ألمانيا منذ الحرب العالميَّة الثانية تطورات سياسيَّة كبيرة شكلت تاريخها الحديث. 

دعونا نلقي نظرة على بعض العناوين المهمَّة للتطورات السياسيَّة الرئيسة التي حدثت بعد الحرب العالميَّة الثانية والتي أسهمت في تشكيل النظام السياسي الألماني:

* سياسات إعادة الإعمار والتقسيم الى الألمانيتين الى غربيَّة وشرقيَّة (1945 – 1949).

* المعجزة الاقتصاديَّة لألمانيا الغربيَّة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

* الإصلاحات الدستوريَّة المختلفة.

* ألمانيا الغربيَّة وسياسة الاتجاه نحو الشرقيَّة والانفراج خلال الحرب الباردة.

* إعادة توحيد ألمانيا الغربيَّة والشرقيَّة (1990).

* حماية البيئة ومكافحة التغير المناخي ونشوء حزب الأخضر.

* التكامل الأوروبي.

* مشروع تحول الطاقة.

* حركات الشباب والتغيرات الديموغرافيَّة.

* أزمة الهجرة (2015 – 2016).

* صعود الشعبويَّة اليمينيَّة المتطرفة.

* فترة حكم المستشارة الاتحاديَّة أنجيلا ميركل (2005 – 2021)

* وأخيراً الانتخابات الفيدراليَّة لعام 2021 وتشكيل حكومة جديدة يغيب فيها الحزب الرئيس الأول في ألمانيا حزب الاتحاد الديموقراطي (CDU)، وتشكيل حكومة جديدة من الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD)، بقيادة المستشار أولاف شولتز الذي كان وزير ماليَّة في حكومة ميركل الأخيرة، بفارقٍ ضئيلٍ، وشكل حكومة إئتلافيَّة لأول مرة مع حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر

‏ FDP.

تعكسُ جميع التطورات صيرورة المشهد السياسي في ألمانيا، والتزامها بالديمقراطيَّة، واستمراريَّة دورها كلاعبٍ رئيسٍ في الشؤون الأوروبيَّة والعالميَّة، ومن الملاحظ أيضاً كيفيَّة قدرة النظام السياسي في ألمانيا على التكيف مع الظروف المتغيرة، متأثراً بتجاربه التاريخيَّة وخاصةً تجارب القرن العشرين، مع الحفاظ على التزامه بالقيم الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان. 

ولا ننسى أنَّ هذه الأحداث والاتجاهات تعكسُ ديناميكيَّة وتعقيدات ألمانيا الحديثة، والتي أدت الى تطور البلاد لتصبح دولة مستقرة وديمقراطيَّة ومؤثرة تتمتع باقتصادٍ قوي والتزام بمواجهة التحديات العالميَّة المعاصرة، سواء داخل أوروبا أو على الساحة الدوليَّة على حدٍ سواء.

تشكلُ رحلة ألمانيا نحو التصالح مع ماضيها درساً بالغَ الأهميَّة للدول الخارجة من صراع، فبعد الحرب العالميَّة الثانية والدمار الهائل والشامل الذي لحق ببناها الأساسيَّة، الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، واجهت ألمانيا مسؤوليتها التاريخيَّة بشكلٍ مباشر، ولم تخجل من الاعتراف بأخطائها، بل وحتى اعترفت بدورها في ارتكاب الفظائع بحق شعبها وبحق شعوب الدول المجاورة لها، وعليه، كمثال، أصبح إحياء ذكرى المحرقة والتوعية بها جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الألماني، كنوعٍ من أنواع التذكير الذاتي، وبما يضمنُ عدم نسيانهم لأصعب فصول تاريخهم.

– النظام الاتحادي والحكم الذاتي للولايات

تتمتع الولايات أو المحافظات المعروفة باسم «ليندرLänder /»  بقدرٍ كبيرٍ من الحكم الذاتي في مجالات مختلفة، وهو سمة أساسٌ لهيكلة البلاد السياسيَّة.

ولهذا النظام آثارٌ مهمَّة وعدَّة على اللامركزيَّة والحكم المحلي في ألمانيا، إذ يسمح للولايات مثل بافاريا وبادن فورتمبيرغ بصياغة السياسات التي تلبي احتياجاتها الثقافيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الفريدة، وتحافظ في الوقت نفسه على وحدة الشعب تحت مظلة اتحاديَّة.

أُنشئ النظام الفيدرالي الاتحادي في ألمانيا بعد الحرب العالميَّة الثانية لضمان توزيع السلطة في جميع أنحاء البلاد بطريقة تمنع مركزيتها وقدرة أي شخصٍ أو كيانٍ من الاستحواذ بالسلطة، بعد أنْ كانت سمة من سمات النظام النازي، وصُمم أيضاً لاستيعاب تنوع مناطق ألمانيا والاختلافات التاريخيَّة مع المشهد الجيوسياسي والجغرافي الاقتصادي الخاص 

بها.

إذ يقسم النظام الاتحادي الألماني السلطات والمسؤوليات بين الحكومة الاتحاديَّة وحكومات الولايات، وتمَّ توضيح هذا التقسيم في الدستور الألماني المعروف ب(القانون الأساسي لعام 1949)، الذي حدد بدوره الصلاحيات والاختصاصات الحصريَّة للحكومة الاتحاديَّة مثل: الشؤون الخارجيَّة والدفاع، في حين أنَّ المجالات الأخرى، مثل: التعليم والشؤون الثقافيَّة، هي في المقام الأول مسؤوليَّة الولايات، كما أنَّ حكومات الولايات مسؤولة عن سنِّ التشريعات وإدارة شؤونها الماليَّة والقضائيَّة، فضلاً عن تنفيذ القوانين الاتحاديَّة ضمن ولايتها المنصوص عليها في الدستور.

ويضمن الدستور الألماني تقاسم العائدات والترتيبات الماليَّة، وحصول الولايات على الموارد اللازمة للوفاء بمسؤولياتها، وتحصل الولايات على حصة كبيرة من عائدات الضرائب، والتي تستخدمها لتمويل برامجها وخدماتها.

في الوقت الذي تتمتع فيه الولايات بقدرٍ كبيرٍ من الحكم الذاتي، فإنَّ ألمانيا تمارسُ أيضاً الفيدراليَّة التعاونيَّة، وهذا يعني أنَّ الحكومة الاتحاديَّة تعمل مع الولايات لمواجهة التحديات المشتركة ووضع السياسات الوطنيَّة، وتعملُ الفيدراليَّة التعاونيَّة على تعزيز التعاون في قضايا مثل: تطوير البُنى التحتيَّة، وحماية البيئة، والصحة العامَّة.

كما يسمح النظام الاتحادي في ألمانيا بالتنوع السياسي، وكذلك بالسماح للولايات بالتجريب بمشاريع أو قوانين جديدة، وغالباً ما تتبنى الولايات الألمانيَّة أساليب مختلفة في التعامل مع تحديات السياسات، والتي يمكن أنْ تكونَ بمثابة تجارب قيّمة ومصادر للابتكار. 

كما أنها تستوعبُ التنوعَ الإقليمي والثقافي، وتعترف بالهويات الفريدة والخلفيات التاريخيَّة لكل جغرافيا ألمانيا الاتحاديَّة.

 فضلاً عن هيكلة الولايات، توجد في ألمانيا أيضاً ثلاث “ولايات – مدن”، والتي يشار إليها أيضاً باسم “دول المدن” ذات الوضع الخاص، هي برلين وهامبورغ وبريمن. 

إنَّ الوضع الخاص لهذه الولايات – المدن متجذرٌ جزئياً في الفكر السياسي الألماني الناتج عن عوامل تاريخيَّة عدة، ولكنَّه يعترفُ بالوقت ذاته بأهميتها في المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي في ألمانيا، وتتمتع هذه الولايات بدرجة من الاستقلاليَّة في مجالات معينة، بما في ذلك التعليم والحكم المحلي، الأمر الذي يسمح لها بإدارة شؤونها إلى حدٍ أكبر من المناطق الأخرى، ويعكسُ هذا الوضع الخاص أدوارها التاريخيَّة والمعاصرة الفريدة داخل ألمانيا.

بشكلٍ عامٍ، يسهمُ النظام الفيدرالي في ألمانيا في تحقيق اللامركزيَّة والحكم المحلي من خلال توزيع السلطة عبر مستويات متعددة لنظام الحكم في ألمانيا. 

وهذا يضمن أنْ يتمَّ اتخاذ القرارات من قبل المؤسسات الأقرب إلى الناس والتي تتمتع بوضعٍ أفضل لتلبية الاحتياجات والظروف المحليَّة.

كما أنَّه يعزز التعاون والتنوع، والاستقرار والقدرة على التكيف في الهيكليَّة السياسيَّة والإداريَّة للبلاد.

– التحديات المنهجيَّة

رغم أنَّ النظام السياسي الألماني معروفٌ باستقراره وفعاليته، إلا أنَّه واجه أيضاً نصيبه من التحديات التي ربما لم تتم معالجة بعضها بشكلٍ كاملٍ بعد، وتشملُ بعض التحديات الملحوظة:

* الاعتماد على النمو الاقتصادي والذي يقوده التصدير.

* تحديات تحول الطاقة.

* التحديات الديموغرافيَّة وإدماج المهاجرين.

* نقص الموازنة العسكريَّة.

* العقبات وتعقيدات البيروقراطيَّة.

* المخاوف المتعلقة بعدم المساواة بين المواطنين.

* التقدم في الأهداف المناخيَّة.

* تحديات منطقة اليورو.

* الزيادة في الشعبويَّة والحركات اليمينيَّة.

من المهم أنْ نلاحظَ أنَّ نقاط الضعف والتحديات الكبرى أعلاه ليست فريدة من نوعها أو حكراً على النظام السياسي الألماني، ويمكن ملاحظتها وبدرجات متفاوتة في بلدانٍ أخرى. 

ومن ناحية ثانية، فإنَّ نقاط القوة التي تتمتعُ بها ألمانيا في مجالات الاستقرار السياسي، والازدهار الاقتصادي، والدبلوماسيَّة الدوليَّة غالباً ما تطغى على هذه التحديات، مع إدراك الطبقة السياسيَّة بأنَّ معالجة هذه القضايا ستظلُ مسألة حاسمة لضمان استدامة وفعاليَّة النظام السياسي في ألمانيا على المدى الطويل.

– دروسٌ للعراق

يمكن للعراقيين استخلاص دروسٍ رئيسة عدة من النموذج الألماني، لا سيما في سياق إعادة الإعمار بعد الحرب والمصالحة وإيجاد نظامٍ سياسي مستقرٍ وبناء الأمة، دعونا الآن نلخصُ المجالات الرئيسة التي ركزّ عليها النظام السياسي والطبقة الألمانيَّة كأولويَّة، والتي من الممكن جداً أنْ تكون مفيدة للعراق:

* مواجهة المسؤوليَّة التاريخيَّة بشجاعة وعدم التهرب منها.

* الالتزام بالديمقراطيَّة كخيارٍ لا بديل عنه.

* الفيدراليَّة واللامركزيَّة الإداريَّة.

* الانتعاش الاقتصادي والتنموي بعد الحرب العالميَّة الثانية.

* إعادة الاتحاد السلمي لكل من ألمانيا الشرقيَّة والغربيَّة.

* التكامل الأوروبي

* الرعاية البيئيَّة والتعليم والتبادل الثقافي للشباب.

* التضامن والتكامل لدول أوروبا الشرقيَّة ودورها في التكامل الأوروبي.

* الحفاظ على الثقافة والتاريخ.

* الدور الكبير في المنظمات الدوليَّة.

* التركيز على القوة الناعمة والدبلوماسيَّة.

* الالتزام بسيادة القانون وتعزيز الديمقراطيَّة.

* التعاون المتعدد الأطراف.

* المساعدات الإنسانيَّة ومساعدة اللاجئين، وإدماج الأقليات.

* سياسات حفظ السلام كدورٍ فعالٍ في حل النزاعات على المشهد العالمي.

بالنسبة للعراق، الدولة التي لديها تاريخٌ من الانقسامات المعقدة وتفتخر بفسيفساء من الأعراق والأديان والهويات الإقليميَّة، فإنَّ النموذج الألماني للفيدراليَّة يقدمُ درساً قيماً لها، فهو يوفر خطة لاستيعاب المصالح للمحافظات المتنوعة مع الحفاظ على هويتها وعلى الوحدة الوطنيَّة، ومن الممكن أنْ يكون هذا النهج فعالاً في تلبية الاحتياجات والتطلعات الفريدة لمختلف مناطق العراق، من إقليم كردستان إلى البصرة، وتعزيز الشعور بالمشاركة والحكم المشترك.

باختصار، يقدم التحول الذي شهدته ألمانيا في مرحلة ما بعد الحرب دروساً قيمة للعراقيين في ما يتعلق بالمصالحة، والديمقراطيَّة، والنظام السياسي الاتحادي، والتنمية الاقتصاديَّة، والتعاون الإقليمي، والاستدامة البيئيَّة، والاستثمار في المستقبل من خلال التعليم وتمكين الشباب. 

ومن الممكن أنْ تكونَ هذه الدروس بمثابة مبادئ توجيهيَّة في جهود العراق لإعادة بنائه وتشكيل مستقبله.

– خاتمة

هناك مجموعة من الأمثال الألمانيَّة التي قد تساعدنا في فهم الألمان بشكلٍ أفضل، وهي: «النظام نصف الحياة»، «في الهدوء تكمن القوة»، «معاً نحن أقوياء»، «حيثما توجد إرادة، يوجد طريق»، «كل بداية صعبة». 

وأخيراً «الكبرياء يأتي قبل السقوط». 

وهو ما يحذر من الغطرسة والثقة المفرطة، ما يعني لنا أنَّ التواضع سمة قيّمة للقادة في المجال السياسي. 

من الجدير بالذكر فإنَّ المشهد السياسي في ألمانيا اتسم بالتحالفات بين مختلف الأحزاب، الأمر الذي أدى إلى نظامٍ متعدد الأحزاب.

وقد تتطور المذاهب السياسيَّة والمدارس الفكريَّة بمرور الوقت ويمكن أنْ تختلفَ اعتماداً على السياسات والأولويات المحددة للائتلاف الحاكم. 

فضلاً عن ذلك، أدى إرث الحقبة النازيَّة إلى التزامٍ قويٍ بالديمقراطيَّة وحقوق الإنسان في السياسة الألمانيَّة 

المعاصرة. 

وبينما يواجه العراق أحداثه التاريخيَّة المعقدة ويعملُ على تحقيق الوحدة الوطنيَّة، يقدم النموذج الألماني خارطة طريق لنا يمكن الاقتداء بها. 

ومن خلال الاستفادة من هذه الدروس، يستطيع العراق صياغة مستقبلٍ يتسمُ بمشاركة الجميع بالحكم والديمقراطيَّة والسعي إلى تحقيق أهدافٍ مشتركة، ومحاولة محاكاة مرونة ألمانيا في التكيف مع كثرة تحولاتها عبر التاريخ، وبالتصميم والالتزام والتعلم من التاريخ، يستطيع العراق بناء مستقبلٍ أكثر إشراقاً لجميع  مواطنيه.

التعليقات معطلة.