د. عبد الحق عزوزي
لما كان العالم يعيش في ظل جائحة «كورونا»، كان جل المنظرين الغربيين في العلاقات الدولية يقرون بأن هناك ضبابية في تحديد مستقبل النظام العالمي، جعلتهم يخرجون بقناعة أنه لا يوجد تصور مستقبلي واحد مضمون الحدوث حتى عام (2030)، ولطفوا جزئياً هذا التوجه ببعض السيناريوهات المحتملة من قبيل: نهاية النظام الليبرالي العالمي، استبداد سلطوي يشبه فترة الثلاثينات، نظام عالمي تهيمن عليه الصين، تراجع نسبي للولايات المتحدة في النظام العالمي، وتراجع هيبتها على نحو كبير، أجندة دولية خضراء، تغييرات محلية مهمة تتعلق بالرعاية الصحية والتعليم.
وأنا أقول بأن النظام العالمي هذا كما تصوره هؤلاء كان بالعكس من ذلك يوحي لنا يقيناً بأنه يعيش وسيعيش أسوأ أزماته، وظهرت محددات جديدة له وإكراهات غير مسبوقة؛ فالجائحة – كما مسلسل الأحداث اليوم – أبانت أن النظام العالمي مريض وأناني، وأن هناك ازدواجية المعايير في أخذ القرارات من طرف الفاعلين الكبار، والمرحلة الحالية والمقبلة بدأ يتغير فيها كل شيء.
ويكفي أن نتابع ردود الفعل الغربية تجاه تقدُّم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان بطلب لإصدار مذكرتي اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة ابتداء من 8 أكتوبر (تشرين الأول)، ومن بين هذه الجرائم «تجويع المدنيين بوصفه وسيلة من أساليب الحرب»، و«تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين».
هاته الدعوة قوبلت بمعارضة شديدة من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى؛ لأنها تظن مجتمعة أن العدالة الدولية لا يمكنها أن تطول أعمدة النظام الغربي الليبرالي وحلفاءها، بل فقط الأنظمة الأفريقية التي تعيش في نظرها خارج التاريخ، ولا تملك أصولاً ولا نوادي في النظام العالمي، أو أنظمة غربية أخرى ممقوتة من قبيل نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
بلغت معارضة أميركا للمحكمة الجنائية الدولية منتهاها خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، عندما فرضت عقوبات على أعضاء المحكمة، وحظرت الحسابات المصرفية للمدعية العامة السابقة، وهذا كان أمراً طبيعيا ًإذا فهمنا أبجديات السياسة الخارجية لترمب في حق المنظمات والمحاكم الدولية، ولكن كل هذا تم إلغاؤه في عهد الرئيس الحالي جو بايدن إلى درجة أن وزير العدل الأميركي قام السنة الماضية بأول زيارة على الإطلاق إلى «الجنائية الدولية» في تاريخ المحكمة الممتد منذ 22 عاماً، ليدعم مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة بحق الرئيس الروسي.
ولكن بمجرد أن يتم التفكير أو المساس بالمصالح العليا المسطرة في النظام العالمي من قبل الفاعلين الكبار فيه، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، فإن ذلك لا يتم قبوله، وتتم محاربته بل السعي إلى إيقافه؛ فها هو الرئيس الأميركي جو بايدن يؤكد علناً أن مساعي خان لإصدار أوامر لإلقاء القبض على مسؤولين إسرائيليين كبار، «مخزية».
وها هو وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ينتقد المدعي العام خان، ويقول إن «هذه الظروف وغيرها تثير التساؤلات حول شرعية ومصداقية هذا التحقيق»؛ كما وصف رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون المنتمي للحزب الجمهوري قرار خان بالسعي لإصدار مذكرات اعتقال، بأنه «بلا أساس، وغير شرعي».
خان يفهم كيف يسير النظام العالمي، لهذا قال في إعلانه إن جميع المحاولات الرامية إلى تعطيل أو تخويف مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، أو التأثير بشكل غير لائق عليهم، يجب أن تتوقف على الفور.
وهناك مثال آخر يمكن ذكره وهو إعلان آيرلندا والنرويج وإسبانيا اعترافها بدولة فلسطين بدءاً من 28 مايو (أيار). وإذ سارعت جامعة الدول العربية إلى الترحيب بالخطوة، فإنها أثارت غضب إسرائيل وحليفتها أميركا. ولكن أين هي الدولة المحورية في أوروبا، وأعني بذلك فرنسا؟ نتذكر جميع أنه عندما أرادت حكومة بوش الابن التدخل في العراق سنة 2003، رفضت بعض الدول الغربية ذلك، وعلى رأسها فرنسا، باسم الشرعية القانونية والدولية، وباسم الفلسفة التي يجب أن تصطف فيها الدول في هجوم عسكري ذي أبعاد مجهولة على دولة ذات سيادة… هذا الإيمان القانوني – الفلسفي يلزم اليوم دولاً مثل فرنسا لتكون من أوائل الدول مع آيرلندا والنرويج وإسبانيا التي يجب أن تعترف بالدولة الفلسطينية، ولكن ذلك لم يقع على الأقل في الفترة الراهنة!
من كان يعطي محاضرات في مدرجات جامعة السوربون أو في بعض الجامعات الأميركية هاته الأسابيع، سيعي سر المظاهرات التي قام بها طلبة تلكم الجامعات، وجلهم ليسوا من أصول عربية، فهؤلاء فهموا أن الابتسامة الغربية فيها نفاق، وأنها لم تعد تغري، وأن سياسة ازدواج المعايير يجب أن تتوقف في النظام العالمي.