النموذج التركي

1

 
بشير عبدالفتاح
 
 
شاع الحديث طيلة السنوات العشر المنقضية عما يعرف بـ «النموذج التركي»، الذي سعى رجب طيب أردوغان وأوساط غربية إلى طرحه كعلاج لحالة التيبس السياسي والتكلس الاقتصادي التي أطبقت على دول الشرق الأوسط، وآلية لتقويض موجة الفكر التكفيري الجهادي المتنامية في العالم الإسلامي، فضلاً عن ملء الفراغ السياسى الناجم عن سقوط بعض الأنظمة العربية عقب انتفاضات العام 2011.
 
 
لكن السنوات القليلة المنقضية شهدت خفوتاً لافتاً في هذا الطرح، بخاصة في وسائل الإعلام الغربية التي طالما روَّجت له. ويذكر أن تأثر العرب بما يدور في تركيا، سلباً أو إيجاباً، إنما يرتد إلى عقود سبقت عهد أتاتورك أو حقبة أردوغان، وتحديداً إبان الفصول الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية.
 
فعلى صعيد العلاقات المدنية العسكرية، تأثرت الدول العربية والإسلامية سلباً بانقلاب جماعة «الاتحاد والترقي» ضد السلطان العثماني عبدالحميد الثاني في العام 1908، والذي سلَّط الضوء على النشاط التدخلي للانكشارية والجيش العثماني، كما رسخ دعائم الدور السياسي للجيش التركي لاحقاً، وخلف تداعيات عميقة ومصيرية على أدوار الجيوش في الدول العربية، خصوصاً بعد مشاركة عناصر من جيوش تلك البلدان في انقلاب «الاتحاد والترقي».
 
فلقد تأثرت تلك العناصر العسكرية العربية لاحقاً بالاتجاهات الفكرية والسياسية للاتحاديين الأتراك بشروعها في تكوين منظماتها القومية العسكرية السرية الخاصة كـ «الجمعية القحطانية»، وجمعية «العهد»، والتى هيَّأت بدورها الأجواء للحراك العسكري والشعبي الذي عرف بـ «الثورة العربية الكبرى» عام 1916، والذي توسلت دول المشرق من ورائه انتزاع الاستقلال عن السلطنة العثمانية بدعم مخادع من البريطانيين حينئذ.
 
كما أسهمت في بناء الدول الوطنية والجيوش النظامية العربية غداة الحرب الكونية الأولى.
 
وبمرور الوقت، بدأت الدول العربية تعرف ظاهرة الانقلابات العسكرية المستوحاة من التجربة العثمانية، حيث احتل العراق قصب السبق من خلال انقلاب بكر صدقي في العام 1936، ثم تبعه اليمن ومن بعده سورية ثم مصر والسودان… إلخ، ليبلغ إجمالي الانقلابات العسكرية التى شهدتها الدول العربية بين عامي 1936 و1970 فقط 41 انقلاباً، توالى على إثرها تدخل الجيوش العربية في الشأن العام بصور شتى، توجت بمباشرة بعض تلك الجيوش للدور الوطني التنموي، خصوصاً مع اشتداد وطأة الاضطرابات وطول أمد المراحل الانتقالية بالتزامن مع سقوط الأجهزة والمؤسسات المدنية المنوط بها ذلك الدور التنموي، في براثن العجز والفشل والترهل. أما على صعيد التحول الديموقراطي ودمج الإسلاميين في العملية السياسية القائمة على المزج بين الإسلام الحضاري والليبرالية الغربية، فقد خطت على دربه تركيا خطوات حثيثة فى أعقاب انقلاب عام 1980 بقيادة كنعان إيفرين، على نحو تمخض عن اعتلاء حزب «الوطن الأم» بقيادة تورغوت أوزال للسلطة عام 1983، ومن بعده حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان عام 2002، حتى اعتبر مراقبون أن التجربة التركية دحضت من خلال عملية إصلاح وتطوير تراكمية ومتواصلة، نظرية التعارض بين الإسلام وكل من الديموقراطية والتنمية، من خلال الدمج الآمن للإسلاميين فى العملية السياسية، والجمع البارع ما بين الديموقراطية والتنمية الاقتصادية في آن، على عكس تجارب عالمية أخرى أدركت الإصلاح السياسي لكنها عجزت عن تحقيق التنمية الاقتصادية.
 
وإذا كان أردوغان بدأ يروج منذ استعانته بالأكاديمي والديبلوماسي أحمد داود أوغلو قبل خمسة عشر عاماً لسياسة «صفر مشكلات» في التعامل مع المحيط الإقليمي والدولي، فإن جذور تلك السياسة تعود أساساً إلى عهد أتاتورك، الذي رفع قبل زهاء تسعة عقود شعار «سلام في الداخل، سلام مع العالم الخارجي».
 
وبينما يتباهى أردوغان بجهوده لبناء صناعة دفاع وطنية تركية، فإن هذا التوجه يعود كذلك إلى عهد أتاتورك والذين جاءوا من بعده، وحاولوا، بطرق شتى وقدر المستطاع، الالتفاف على المعاهدات والملاحقات الدولية التي تقيد جهود تركيا في هذا المضمار.
 
ثمة من يعزى بزوغ «النموذج التركي» إلى عهد تورغوت أوزال، مؤسس حزب «الوطن الأم»، الذي تولى رئاسة الحكومة ثم رئاسة الجمهورية بين 1983 و1993، وشرع فى مأسسة جهود بناء الجمهورية التركية الثانية، المتحررة من هيمنة العسكر، والمنفتحة سياسياً واقتصادياً على الداخل والخارج. فبعد إصلاحات اقتصادية جذرية رافقها انفتاح داخلي وخارجي، حقق أوزال لتركيا انجازات اقتصادية ملفتة وقفز بصادراتها من 7،5 بليون دولار عام 1983 إلى 6،11 بليون دولار عام 1989، كما ارتفع بمعدل النمو القومى من 3،3 في المئة إلى 9،1 في المئة.
 
وسياسياً، كان أوزال أول من سعى إلى تقليص الدور السياسي للجيش، حين أدخل إصلاحات مهمة على بنية النظام السياسى، بخاصة رئاسة الجمهورية، التي كان يحتكرها كبار العسكريين، ككمال أتاتورك، وعصمت إينونو، وجلال بايار وجمال جورسيل وجودت صوناي وفخري قوروتورك وكنعان إيفرين، مفسحاً بذلك المجال أمام سياسيين مدنيين وتكنوقراط مثله وسليمان ديميريل ونجدت سيزار وعبدالله غل، ثم أردوغان وداوود أوغلو.
 
وبعدما عزز مظاهر الإسلام فى ربوع البلاد، عمد أوزال إلى تقريب تركيا من دول العالم الإسلامي، فكان أول من استخدم مصطلح» العالم التركي» حينما استضاف مؤتمراً للدول الناطقة بالتركية عام 1993، متوخياً تعظيم دور تركيا إقليمياً ودولياً. وفى عهده، تمتعت الأحزاب والتنظيمات الإسلامية بحرية واسعة، حيث ولجت حقل الثقافة والإعلام، عبر إصدار الصحف وتأسيس دور النشر وإطلاق محطات الإذاعة والتلفزة، والانخراط في البيئة الليبرالية الجديدة. وتحسب لأوزال جرأته في التصدي للملف الكردي حين طرح في العام 1991 خطة لتسويته سلمياً عبر إقامة كونفيدرالية بين تركيا وكردستان العراق. كما أحيا حق التمثيل البرلماني لحزب العمال الكردستاني حين أتاح لـ17 وجهاً كردياً ولوج مجلس النواب، ما شجع عبدالله أوجلان رئيس الحزب على قبول وساطة القيادي الكردي العراقي جلال طالباني، بين أوزال وأوجلان، وإعلان الأخير وقف إطلاق النار من جانب واحد في آذار (مارس) 1993.
 
بيد أن وفاة أوزال المفاجئة والغامضة بعدها بشهر واحد جمَّدت مشروع تسوية المسألة الكردية، وأعادت الأمور بين الحزب الكردستانى والدولة التركية إلى المربع الرقم واحد.

التعليقات معطلة.