بإبقائه الأمين العام ينس ستولتنبرغ في منصبه سنة أخرى، اختتم حلف شمال الأطلسي (ناتو) مناقشات حامية دارت أشهراً وراء الكواليس، بحثاً عن قائد جديد لأكبر كتلة عسكرية في العالم. طُرحت علناً أسماء، منها بن والاس وزير الدفاع البريطاني، وتم التكهن بمرشحين ومرشحات من الوزن السياسي الثقيل. إلا أن واشنطن التي توجّه بوصلة الناتو اعتبرت أن رئيس الوزراء النرويجي الأسبق هو الخيار الأقل إثارة للجدل، ما أدى إلى التمديد لستولتنبرغ عاماً عاشراً. وهذا سيجعله صاحب ثاني أطول ولاية كأمين عام للناتو منذ تأسيسه قبل 74 عاماً. والحق أن محاولة الناتو التخلص في قمته الأخيرة في فيلينيوس عاصمة ليتوانيا، من تهمة الضعف التي كانت توجه إليه حتى قبل أن يشخّص إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي معاناته من “موت سريري”، لم تنطلق انطلاقة موفقة، عندما عجز أعضاؤه عن الاتفاق على مرشح يحلّ محل ستولتنبرغ. وبدا أن الغزو الروسي لأوكرانيا لم يكفِ لإعادة الحياة إلى الحلف تماماً أو لشدّ الرباط الذي يجمع بين دوله الـ31، على الرغم من أن الحرب قد وضعته في الواجهة من جديد. وفي غضون ذلك، تبقى اليد العليا فيه للولايات المتحدة قوته العسكرية الضاربة. هكذا، أدرك والاس أنّ لا حظّ له بالمنصب عندما رفض الرئيس جو بايدن مباركة ترشيحه. ولا شك في أن ذلك خيّب أمل وزير الدفاع البريطاني الذي لا يفوّت فرصة هو وحكومته وكبار عسكريي بلاده، لتذكير الدنيا بأن لندن في طليعة الدول التي وقفت إلى جانب أوكرانيا قلباً وقالباً. والمفارقة أن هذا الدعم الذي يهدف أساساً إلى إلحاق هزيمة منكرة بروسيا هو من الأسباب الأساسية التي أفضت إلى حرمان والاس من المنصب المنشود. فحماسة لندن، دفعتها إلى المطالبة بإلحاح بدعوة كييف إلى الانضمام إلى حلف الناتو بينما كان موقف واشطن أكثر واقعية، إذ أخذت في الاعتبار رد الفعل الروسي المحتمل والظروف الموضوعية التي تجعل أوكرانيا غير مؤهلة للالتحاق بالحلف، وأهمها أنها لا تزال في حالة حرب. كما أعلن البريطانيون عن خططهم الرامية إلى تدريب طيارين أوكرانيين على قيادة طائرات إف 16، وذلك من دون أن يستشيروا أميركا، صانعة هذه المقاتلات. هكذا شعرت الولايات المتحدة بالاستفزاز مرتين. فكيف تستسيغ دولة مثلها محاولة أحد المزاودة عليها والظهور بمظهر من يقود جهود الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا وكأنه يشّكك بكفاءة أميركا في تصدّر هذا الدعم؟ وعزّز تحفّظ لندن عن إمداد واشنطن كييف بقنابل عنقودية من شعور بايدن بعدم الارتياح. وربما رأى الرئيس في ذلك ما يوحي بعدم تسليم “أبناء العم” في لندن بأن أميركا هي التي تحدد وجهة الحلف بالتفاهم مع أعضائه، ولم يقتنع بأنه موقف لا مناص لبريطانيا من الإعراب عنه لكونها من الدول الموقعة على اتفاقية حظر القنابل العنقودية. وهذا ليس كل شيء. فوالاس بريكستي أصيل، أتى به إلى الحكومة بوريس جونسون أول الأمر. وتسبّب ذلك في اعتراض فرنسا وألمانيا عليه، لأنهما تصرّان على أن يكون الأمين العام للناتو من دول الاتحاد الأوروبي، الذي خرجت منه بريطانيا بفضل مسؤولين مثل والاس وجونسون. والأرجح أن ذلك ساهم في رفضه من الرئيس الأميركي. فهو لم يكن يوماً من أنصار البريكست الذي ألحق الضرر بما تعتبره بريطانيا “العلاقات الخاصة” بينها وبين الولايات المتحدة، علماً أن هذه العلاقات كانت متهالكة سلفاً. وهذا موضوع سيكون لنا وقفة معه في مناسبة لاحقة. والاس الذي يُعتقد أنه تلقى الدعم من بولندا وهنغاريا، طُويت صفحة ترشيحه قبل وصوله إلى مرحلة المقابلة الوظيفية، خلافاً لميتي فريدريكسن رئيسة وزراء الدنمارك التي حظيت بدعم فرنسا وألمانيا وغيرهما من كبريات دول الاتحاد الأوروبي. إلا أنها عادت من “المقابلة” في واشنطن بخفي حنين. فسيد البيت الأبيض يحبّذ كما يُقال تولي أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، رئاسة الناتو، غير أنها لن تستطيع تلبية رغبته حتى عشية الانتخابات الأوروبية العام المقبل. وهو يرى أنها الأجدر في إدارة العلاقات المتوترة مع الصين، أحد همومه الكبيرة، وفي التعامل مع الأزمة الأوكرانية وأيضاً مع البريكست، الذي أبدت مرونة حياله وساعدت ريشي سوناك على تجاوز بعض مراحله الصعبة. وفي المحصلة، تم التمديد لستولتنبرغ، كما جرى في 2017 ثم في 2019. وبدلاً من أن يغادر في 2022، أبقته الأزمة الأوكرانية حتى هذا الشهر. ومن المفترض أن تكون فون دير لاين جاهزة العام المقبل لتسلم الراية منه. لكن من الصعب التكهن بما سيجري في 2024، فربما صار هناك منافس قوي لها، بعد قرار رئيس الوزراء الهولندي مارك روته الخروج من معترك السياسة في بلاده التي قاد حكوماتها لمدة 12 عاماً، ما يجعله شخصية مؤهلة بقوة ليكون الأمين العام للناتو. كما قد يكون هناك منافس ثان لا يستهان به هو بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء الإسباني الذي يخوض قريباً معركة حياة أو موت في الانتخابات المبكرة المزمع إجراؤها أواخر تموز (يوليو) الحالي. في هذه الأثناء، تتعالى الأصوات المهللة لنجاح الحلف، ممثلاً بستولتنبرغ، في إقناع تركيا بالموافقة على عضوية السويد بعد تمنعها الطويل. ولا يزال انضمام فنلندا في نيسان (أبريل) الماضي، مصدراً للإحساس بقوة الناتو. إلا أن هذين الإنجازين لم يتحققا بفضل مهارات الأمين العام التي لا يستخف بها، بل بسبب إصرار أميركا ومساوماتها عليهما. وثانياً لا ينبع تعديل أنقرة موقفها من رغبة في توحيد الصفوف وزيادة قدرات الحلف، بل إلى التنازلات التي قدمتها السويد من جهة، وإلى صفقة طائرات الـ إف 16 التي يتردد أن واشنطن رضيت أن تعقدها معها، من جهة أخرى. ومن يدري، فقد ينتزع الرئيس رجب طيب أردوغان وعداً بنيل تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي من دون شروط بروكسل “التعجيزية” لناحية الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان اللذين لا يعبأ بهما كثيراً! مظاهر القوة والتوافق التي غلبت على قمة فيلينيوس أخفت في الحقيقة تفكّك الناتو وضعفه. فدوله منقسمة ولم تستطع حتى أن تتفق على أمين عام جديد لحلفها. وهي لا تستطيع حماية نفسها، أو التدخل بمعزل عن أميركا في حرب تقليدية. وثمة مشكلات بنيوية يشكو منها قطاع الدفاع في أوروبا، حيث الصناعات الدفاعية لا تسدّ الحاجة، ومخزونات الذخائر تضاءلت بشدة بعد 17 شهراً من قتال الروس في أوكرانيا، والسياسات تمعن في توسيع الهوة بين الدول بدلاً من مساعدتها على اتباع استراتيجيات عسكرية تكاملية. جوانب الوهن والتشرذم، وهذه أهمها، هي الأسباب الموضوعية التي تجعل أميركا الضامن الأساسي لأمن دول الحلف وصاحبة القرار فيه. ويدفع الثمن من يظن أنها ليست كذلك!
التعليقات معطلة.