“اعرف نفسك”
سقراط
حين يتوقف الإنسان عن الركض، ويختار أن يتأمل ذاته، لا ليحكم عليها، بل ليفهمها، يبدأ في التحول الحقيقي، ذلك التحول العميق والبطيء، الذي لا يُحدث ضجيجًا خارجيًا، بل يُشعل وعيًا داخليًا هادئًا، يدفعه لأن يسأل: من أنا؟ لماذا أتصرف هكذا؟ ما الذي أحبه بحق؟ وما الذي يوقظ فيّ الشعور بالحياة؟ هذه الأسئلة، رغم بساطتها الظاهرية، تحمل مفاتيح حياة أكثر وضوحًا، واتساقًا، وشغفًا.
الوعي الذاتي ليس رفاهية معرفية، بل هو القاعدة التي يُبنى عليها كل قرار نابع من الذات، وكل علاقة صادقة، وكل مسار مهني يُشبهك فعلاً؛ أن ترى نفسك كما هي، بلا تجميل ولا تزييف، وأن تدرك دوافعك العميقة، ومواطن ضعفك، ونقاط قوتك، وما الذي يحركك أو يربكك في مواجهة الحياة.
هناك نوعان من الوعي الذاتي: الداخلي، وهو معرفة أفكارك ومشاعرك وقيمك، والخارجي، وهو إدراك كيف يراك الآخرون، وكيف تؤثر فيهم؛ ومن يفتقد أحدهما، يسير في الحياة إما بثقة عمياء أو شك مُفرط، أما من جمع بينهما، فقد أمسك بعصا التوازن.
لكن من الضروري أن نميّز بين الوعي والثقافة، إذ يخلط كثيرون بين المفهومين، فيظنون أن من قرأ كثيرًا أو أجاد التعبير صار واعيًا، وهذا خلطٌ شائع؛ فالثقافة تمنحك أدوات الفهم، لكن الوعي يفرض عليك أن تنظر في تلك الأدوات من الداخل، أن تُسائلها، وتربطها بتجربتك، وتفهم بها نفسك والعالم من حولك.
المثقف قد يدهشك بثقافته ومعرفته، لكن غير الواعي قد يؤذي بجهله العميق بذاته. فقد يكون الإنسان بسيطًا قليل الاطلاع، لكنه يتعامل مع نفسه والناس بنضج واتزان، لأنه واعٍ، بينما قد تجد مثقفًا واسع المعرفة، لكنه يفتقر إلى الحكمة، لأنه لم يسائل ذاته يومًا، ولا اختبر أفكاره في عمق التجربة.
لكن أن تكون واعيًا حقًا، فذلك أمر آخر. فالوعي مرآة لا تحابي، ومن يقف أمامها بصدق لا يخرج كما دخل؛ هو ليس راحة، بل اختلال أولي يعيد ترتيبك من جديد. ولهذا، فإن عدد الواعين قليل، لا لأن الطريق غامض، بل لأن الألم المصاحب للصدق مع النفس يجعل كثيرين يختارون الهروب، ويكتفون بسطح المعرفة بدل التورط في عمقها. ولعل ما قاله كارل يونغ يُلخص هذه الحقيقة: “ما لم تُحوِّل اللاوعي إلى وعي، فإنه سيقود حياتك، وستسمي ذلك قدَرًا”، فالكثير مما نعتقد أنه مصير، هو في الحقيقة قرارات خفية اتخذها فينا اللاوعي حين تجاهلنا مواجهته.
إن كنت مثقفًا دون وعي، فقد تستخدم معرفتك لتبرير أخطائك، أما إن كنت واعيًا، فإن ثقافتك تصبح مرآة لا سلاحًا، لأن الوعي لا يُقاس بمستوى الصوت، ولا بتعقيد اللغة، بل بدرجة الصدق مع النفس، والتصالح مع الحقيقة، والقدرة على النظر إلى الداخل قبل أن تُصدر حكمًا على الخارج.
تطوير هذا الوعي لا يأتي صدفة، بل هو فعلٌ مقصود، يبدأ بالتأمل، والتدوين، وطرح الأسئلة الصحيحة على النفس، فحين تستبدل سؤال “لماذا فعلت ذلك؟” بسؤال “ما الذي جعلني أتصرف هكذا؟”، تنتقل من جلد الذات إلى فهم الذات، ومن الدوران في دائرة اللوم إلى الخروج نحو حل واعٍ.
لكن الوعي الذاتي لا يكتمل إلا حين يمتد نحو اكتشاف الشغف؛ فالمعرفة الحقيقية للنفس لا تتوقف عند معرفة ما نخافه أو نتجنبه، بل تمتد لتشمل ما نحب، ما يثير فضولنا، وما يمكن أن نفعله دون أن نشعر بثقل الزمن، فالشغف، في جوهره، ليس صراخًا داخليًا بقدر ما هو همس متكرر، يظهر في شكل اهتمام دائم، أو سعادة طفولية، أو شعور بالامتلاء عند ممارسة شيء ما.
ولأن الشغف ليس دائمًا واضحًا، فإن الطريق إليه يمرّ بالتجريب، إذ لا يكفي أن تجلس وتفكر “ما هو شغفي؟”، بل عليك أن تتحرك، أن تخوض التجربة، أن تجرّب الجديد، وتُعيد اكتشاف ما أحببته قديمًا، فغالبًا، لا نكتشف ما نحب إلا عندما نفعله أولًا.
في هذا السياق، هناك أسئلة تُعد بمثابة مصابيح تنير دربك: ما النشاط الذي يجعلك تنسى الوقت؟ ما الموضوعات التي تثير فضولك بلا سبب واضح؟ ماذا كنت تفعل وأنت طفل دون أن يُطلب منك؟ الإجابة على هذه الأسئلة قد لا تأتي فورًا، لكنها حين تأتي، تضيء الداخل.
ومن الأخطاء الشائعة في فهم الشغف، ظنّ البعض أنه يجب أن يكون واضحًا منذ البداية، أو أنه موجود في مكان ما ينتظر من يكتشفه، بينما الحقيقة أن الشغف يُبنى ويُنمّى مع الوقت، مع الالتزام، ومع التجربة، فأحيانًا تبدأ بشيء تحبه قليلًا، ثم يتحول مع العمل والمثابرة إلى ما يشبه العشق؛ لذلك، من الحكمة ألا تنتظر “الشيء المثالي”، بل أن تبدأ بما هو بين يديك.
في المقابل، علينا أن نحذر من الوقوع في فخ التصورات الرومانسية عن الشغف، تلك التي تقول إنه يجب أن يمنحك دائمًا السعادة، فالشغف الحقيقي يتضمن الجهد، والتحدي، وربما حتى لحظات من الشك والتعب، لكنه، رغم ذلك، يجعلك تشعر بأنك تعيش حياة تستحق أن تُعاش.
فمن عرف نفسه، لم يحتج إلى أن يقلّد غيره، ومن وجد شغفه، استغنى عن الحاجة إلى دافع خارجي كي يواصل السير بثباتٍ في طريقٍ يشبهه. وفي النهاية، الحياة لا تسألنا فقط عمّا أنجزناه، بل عمّا عشناه بصدق، وما فعلناه بوعي، وما منحناه من قلوبنا لما نحب.