الولادة من رحم الانتظار في “جسد مقيم في سرير”

4

ميادة كيالي تروي تجربة الامومة في نص سردي مفتوح
موسى برهومة
الأمومة بريشة غوستاف كليمت (متحف الرسام)
ملخص
من حسن حظ الكاتب أنه يمتلك أدوات حاسمة لقهر الذكريات المؤلمة، عبر استظهارها، وإماطة اللثام عنها. فتحت الشمس تتساوى الأشياء، حتى الجروح، لكنّ ما يجعل جرحاً يبرأ قبل آخر، هو أنه محدد في منطقة مشخصة، وأن صاحبه اختار تعريته بدلاً من المراهم والعقاقير، والدواء ها هنا هو البوح أو الكتابة أو الرسم أو أي شكل تعبيري ينقل الألم من حيزه البيولوجي الهلامي، إلى أن يكون معطى مادياً متعيَّناً.
لعل هذا الوصف يرد في مديح الكتابة العميقة، وهو أيضاً ربما يكون جواباً عن سؤال: لماذا نكتب، ولمن نكتب، وما جدوى الكتابة؟
الكتابة “إعادة خلق قوامها الكلمات، والكلمات حروف منثورة في الطريق. لذلك، حين تلتقطها المرأة الكاتبة، وتنفخ فيها من روحها، فهي تعيد إحياءها بعدما تكسوها بالصلصال الأبدي الذي يجعل الكلمات خالدة، حارة، وجارحة، لأنها تخدش الزمن، فتصنع المفارقات الكبرى، وتهزأ بالمستحيل”. هكذا تخطّ الكاتبة والباحثة السورية ميادة كيالي في مقدمة كتابها الجديد “جسد مقيم في سرير” الصادر أخيراً في بيروت، عن “مؤسسة مؤمنون بلا حدود”.
سبعة أشهر
thumbnail_غلاف الكتاب.jpg
الكتاب الأمومي (دار مؤمنون بلا حدود)
ولكي تبرّ بوعدها، وتنفذ وعيدها، تعترف: “أخرجت هذه الصفحات من دُرجي القديم؛ لأنَّها تستحق أن تُروى، وأن تعانق الضياء.لا أعود بهذه السطور إلى الوراء، بل إلى الداخل…”.
كتاب كيالي (الحاصلة على الدكتوراة في تاريخ الأديان والحضارات القديمة) يرصد سبعة أشهر من حياة الكاتبة، خلال مرحلة إنجابها طفلين توأمين، قبل 25 عاماً. أما سبب استذكارها هذا الحدث الذي ظل حبيس تنهداتها طوال هذا الزمن، فنلمحه في إهدائها الكتاب إلى طفليها الشابين (فارس وكريم): “أفتح صفحات قلبي، لا لأروي قصة بدأت، بل لأواصل حكاية لم تنتهِ. هذه حكايتي معكما، أرويها اليوم وقد مضت سنوات، وصرتما رجلين يشهد لكما من عرفكما. لكنّكما، في عينيّ ما زلتما طفلَيَّ، وما زلتُ الأم التي تحرسكما، بكل ما في قلبها من ياسمين وعنفوان. وما زال في روحي مكانٌ لا يسكنه سواكما”.
تنوه الكاتبة بأنها لا تتوخى كتابة سيرة ذاتية، مع أن “جسد مقيم في سرير” هو تشخيص مقطعي لجزء من السيرة، لكنها تصف كتابتها بأنها حفنة ذكريات مركزة ترنو إلى الحفر في منطقة محددة من الجسد، وهو ذلك الكيان المقيد إلى سرير في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، تحت إشراف طبي مكثف هدفه أن تكون مرحلة الإنجاب هذه هي الأخيرة، وأن تتكلل بالنجاح بعد مشوار طويل من الإخفاق.
وعن الإخفاق وتداعياته وآلامه النفسية، وصوره الاجتماعية القاسية، يتحدث الكتاب بنبرة يمتزج فيها العذاب بالتحدي: “لم أعد أذكر عدد الحقن التي تلقيتها، ولا كم مرة قطعت الطريق من زحلة إلى بيروت ليلاً نهاراً، وفجراً وسط الضباب، وعلى الطرق الوعرة، وفي زحام خانق، مع الثلوج والجليد الخطير، ومركبات الشحن الضخمة، وتجاوزات السائقين الرعناء، متجهة إلى المستشفى في برد قارس ومخاطر طريق ضهر البيدر”.
thumbnail_Mayada-Kayali.jpg
الكاتبة والأكاديمية ميادة كيالي (صفحة فيسبوك)
وتلبية لرغبة مضمرة (ربما) في التحرر من ثقل الماضي، تكثر كيالي من التفاصيل، كما لو كانت صحافية ميدانية تعنى بالوصف المجرد الذي لا يصطنع الأحداث، بل يوثقها، أو يرصد انبثاقها من الداخل نحو الخارج، من دون أن تتنازل الكاتبة عن الوعي بهويتها الذاتية. وعلى رغم أن وقائع ما روته تحدث مع نساء كثيرات، فإن الكتابة هنا تسبر أغواراً بعيدة من أجل رسم الألم، من بوابة التفاصيل: “في عيادته الصغيرة في الطابق السابع، جلسنا إلى طاولة يغمرها الورق المتراكم، أفسح لنا مساحة بحجم ورقة بيضاء جديدة، وبدأ يشرح، بصوت هادئ كهمس الرجاء، كل ما نحن مقدمون عليه. شرح التفاصيل بدقة تُشبه خياطة حلم رفيع على طرف الأمل. خاطبنا، كأبوين قادمين من زمن الانتظار”.
كتابة حارة
ميزة هذه الكتابة أنها تضفر بإتقان بين الشخصي والعام، وهذا ما أكسبها حرارة، ومن شأنها أن تثير تعاطفاً، بدلالة قدرة الكلمات على التأثير في النفس، فثمة مقاطع في “سيرة الولادة” هذه تخلّف مذاقاً مالحاً في الفم لشدة الانفعال والترقب، وهذا نجاح يحسب للكاتبة التي لئن غالت في استنزاف مشاعرها، إلا أن ذلك في النهاية هو إحساسها الذي يمثّلها والذي تذوقت مراراته خلال فترة الحمل وقبله وبعده، وتحملت نقد الأقربين، وسخرية الأبعدين وكيدهم.
اقرأ المزيد
“غير مرئية” رواية تتأرجح بين السرد والتأمل فيه
“فانتازيا” السرد السوداوي في مجموعة قصصية مصرية
أيضاً الكتابة في “جسد مقيم في سرير” تكشف عن سرديات مستقرة في المخيال الشعبي حول الحمل والخصوبة، وعن وصفات “مجرّبة” لحمل ناجح وولادة بلا تعسر، وهي في مجملها تعبر عن وعي خرافي لا يؤمن بالعلم، ولا يكترث بالحداثة والتطور.
في لحظة الإنجاب بتوأمين، كان التصعيد في أعلى ذراه. تكتب كيالي كما لو أنها تصور بكاميرا موصولة بشرايين قلبها وخلايا دماغها: “وما كان انهياري هزيمة، بل وعياً عميقاً، بأن الصبر ليس حبساً للألم، بل استعداداً داخلياً لمعانقته حين يصير شرطاً للحياة”.
النساء خالقات المعنى
وفضلاً عما تقدّم، فإن هذه الكتابة التي تسميها المؤلفة “نصاً” تنصّب نفسها مدافعة عن النساء اللائي يتحدين المستحيل، ويتشبثن “بالأمل العنيد”. هؤلاء النساء “خالقات المعنى”، ومن ثم فإن “الكتابة عنهن في مخاضات الولادة هي إدامة لفكرة العطاء الذي لا ينتهي، وإعادة توقير لمعنى التضحية، مع التأكيد أن الرحلة التي ابتدأت بالألِف لا تنتهي بياء الإنجاب، بل إن في كل منعطف ألِفاً، وليس ثمة ياء، لأن سباق التتابع لا يتوقف. ففي كل لحظة ينبثق ضوء يهزم العتمة، ويبشر بولادات جديدة”.
وكان صدر لكيالي، التي هي في الأصل مهندسة مدنية، “أحلام مسروقة ” (2010)، و”رسائل وحنين” (2013)، و”المرأة والألوهة المؤنثة” (2015)، و”هندسة الهيمنة على النساء، الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة” (2018)، و”في ظلال الياسمين” (2022)، وسواها.

التعليقات معطلة.