اليسار الإسلامي.. النشأة ومعوقات التشكل

1

كتب بواسطة:أنيس العرقوبي

يُعرف “اليسار الإسلامي” من منظريه بأنه الخطاب الثالث الذي يقف في المنتصف بين السلفية التقليدية القائمة على النقل واليسار التقليدي الذي يعمل على دحض الدين والتراث، وهو بذلك يشكل رابطًا ونقطة التقاء فكرتين متباعدتين إلى حد كبير.

فاليسار الإسلامي يطرح من منظوره سبل التحول إلى الحداثة مع الحفاظ على جوهر الفكر العربي الإسلامي وذلك بأدوات منهجية علمية وبرؤى حداثية تستجيب لمتغيرات العصر، فالموازنة بين الأصالة والمعاصرة هي المشروع الأساسي والطريق الأوحد لنهضة الأمة المتعددة وتحررها أولًا من القوالب المعرفية الموروثة وثانيًا من التغريب والتصحر الوافد.

النشأة والطرح الفكري

ظهر اليسار الإسلامي في مصر عن طريق المفكر حسن حنفي وفي تونس إبان صعود حركة الاتجاه الإسلامي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات ومن أبرز رواده أحميدة النيفر والصحفيين صلاح الدين الجورشي وزياد كريشان والسياسي محمد القوماني.

أصحاب هذا الطرح خاصة في تونس يُطلقون على أنفسهم الإسلاميين التقدميين أو الإصلاحيين الجدد ويرفضون تصنيفهم في خانة التيارات اليسارية (الشيوعية والاشتراكية)، فبحسب مقارباتهم الفكرية هم يتوسطون المدرستين التقليديتين، الإسلاميين واليساريين.

تاريخيًا، نشأ اليسار الإسلامي أو الإصلاحيون الجدد في الفترة التي أعقبت تحرر الدول العربية من الاستعمار الأجنبي وفي ذروة الاستقطاب بين عدة مدارس فكرية أحدها إحيائي الذي يقوده دعاة التدين على الطريقة السلفية كالوهابية في الحجاز والمهدية في السودان، وتهدف إلى العودة للأصول وعدم اتصاله بأي أفكار من خارج المنظومة الإسلامية، والآخر تجديدي يستلهم من  الغرب يُنادي بالإصلاح والتطوير قاده زمرة من المفكرين من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة وحسن البنا، وهم المنظرون الذين استلهمت منهم تيارات الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين.

أما المدرسة الثالثة، فهي حداثية وافدة من النموذج الغربي تقوم على استلهام التجربة الأوروبية ويقودها ثلة من الأدباء والمفكرين المتأثرين بفلسفة التنوير من أمثال طه حسين وسلامة موسى وشبلي شميل وفرح أنطون.

أما الطرح الفكري لهذا التيار، فيقوم بحسب حسن حنفي، على مبدأ النقد والمراجعة الذاتية للحركة الإسلامية أي أنها حركة تصحيحية تدعو لإحياء الجوانب الثورية في الدين وتأويل كل حدث على أنه ثورة وصيرورة للفعل الإنساني وفق أدوات تحليلية وقراءات حديثة متماهية مع الواقع والمتغيرات الاجتماعية والتحولات السياسية.

مشروع اليسار الإسلامي القائم على الرجوع إلى التراث بعقل تجديدي يُحاكي هموم الإنسان فكرًا وواقعًا وثقافةً وعملًا من أجل تعصير العالم العربي وإخراجه من بوتقة التخلف والرجعية، ويستند في طرحه على الحضارة والإرث الإسلامي ومقومات النهضة الغربية بأبعادها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية والفكرية والفلسفية.

في سياق متصل، فإن اليسار الإسلامي يرى أن التغيير في العالم العربي والإسلامي لا يتحقق إلا بالبحث عن العناصر الثورية في الدين لتثوير الواقع والانقلاب عليه وهي ضرورة تقتضيها الحاجة كلما استبد القهر وانتشر التخلف والفقر، ولا يقتصر الاستلهام على التحرر من النص بل يتجاوزه إلى التاريخ والحضارة الإسلامية لاستكشاف الحركات الثورية لتحليلها واتخاذها كنموذج.

كما يُحاول هذا التيار سن منهج فكري حداثي يعكس حاجة المواطن العربي والإسلامي الملحة إلى نظرية تفسر الواقع لا تصدم مع مرجعيته الدينية أي الإسلام وتنسجم مع المشروع الحداثي التنويري وهو المزج بين العقل والتراث والواقع والضفة الأخرى (الغرب الأوروبي).

لذلك، يمكن القول إن اليسار الإسلامي توسط الخريطة الفكرية لكل المدارس وينهل من كل التيارات فهو يتقاطع مع الإسلام التقليدي في العودة إلى النص الديني (قرآن سنة أثر) لاشتقاق واستلهام مفاهيم التقدم والثورة، ومع اليسار في الأدوات الفكرية والمنهج المنحاز للعقل والحرية والإرادة الإنسانية.

تجارب

في تونس، عرف الإسلاميون التقدميون بأنهم تيار عقلاني نشأ في أوساط الجماعة الإسلامية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي في المساجد والجامعات والمعاهد التربوية، إلا أن قرار القيادات (راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو) بتحويل الجماعة إلى حركة الاتجاه الإسلامي في بداية الثمانينيات، واجه معارضة أحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي وزياد كريشان وأصروا على الاستمرار في خطهم الإسلامي ضمن رؤيتهم الثقافية والفكرية والعقلانية.

ركز هذا التيار على العقل أكثر من النص وحمل مشروع تجديد الإسلام، ويصنف أيضًا على أنه اتجاه تربوي يُنادي بأسبقية تربية أفراد المجتمع الإسلامي على تجنيدهم وتجييشهم سياسيًا، وذلك بالنظر إلى الخصوصية التونسية من حيث التركيبة الثقافية للنخبة في تلك الفترة.

المؤسسون لهذا التيار الفكري طالبوا بضرورة الدفع بثورة ثقافية لأنها تمثل عنصرًا جوهريًا في عملية إعادة بناء وعي المجتمع ولأحيائه من أجل الوصول إلى الهيكلة المجتمعية الشاملة، غير أن اختلاف المواقف والرؤى عجل بانسلاخه عن الجماعة الإسلامية.

في تصريح خاص لـ”نون بوست” أكد صلاح الدين الجورشي أحد أبرز منظري الإسلام التقدمي في تونس، أن أهم أدبيات التطور لهذا التيار ترتكز على المشروعية الفكرية والثقافية بدرجة أولى قبل أن تكون سياسية، أي أنه مشروع اجتماعي ثقافي يدعو إلى مراجعة أسس المعرفة الاجتماعية لتأصيل التغيير القاعدي الجوهري.

الجورشي بيّن أن المؤسسين اختاروا تجاوز فكرة الحزب لكونه وعاءً ضيقًا ومحدودًا والانتقال إلى مشروع تيار يُخاطب الأمة بمختلف مكوناتها والمجتمع التونسي بكل أطيافه، مضيفًا أنهم يعتقدون أن تحول الاتجاه الإسلامي من جماعة إلى حزب كان من المنزلقات والأخطاء لأن الحكم لا يُعد بداية التغيير الاجتماعي بل العكس أن التغيير يكون على شكل هرم من القاعدة إلى القمة من خلال حركة فكرية تصحيحية بناءة وواعية.

أما في السودان، فظهر الحزب الاشتراكي الإسلامي بقيادة بابكر كرار الذي أصل لمقاربة الإسلام كأساس جوهري وحيوي وفعال في الحياة وفي صياغة المفاهيم والتصورات للواقع وللحلول، وللطرح الثوري للإسلام الذي ساهم في نجاح حركات التحرر العربي من الاستعمار الإمبريالي، أي مركزية الدين في الثورة خلافًا للتيار الماركسي الذي استبعد الدين من منطلق مادي.

وفيما يخص التغيير، يطرح اليسار المتمثل في التيار الاشتراكي الإسلامي التثوير كآلية للتحول الجذري، ففي كتاب الجماعة الإسلامية دعوة ومنهاج يقول كرار: “من هنا تكون الجماعة الإسلامية ثورة كاملة، ضد النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتعليمي والقضائي، وذلك لأن أي حركة إصلاحية لا تجتث هذه الدعائم من أساسها اجتثاثًا كاملًا فهي حركة ترقيع للمجتمع وحركة تشويه للاتجاهات الثورية المسددة إلى غاياتها”.

هذا التيار قدم قراءات مغايرة للقومية التي يرى أنها لم تطرح الإسلام طرحًا ثوريًا وتبشيريًا لضعف الفكر الاشتراكي العلمي لديها، ولتخلفها عن إدراك مفهوم القومية العربية في حدودها المتحركة والمتحولة بسبب التغيرات الاقتصادية والسياسية إقليميًا ودوليًا.

كما يرى أن الاشتراكية كتيار مستقل في عالمنا العربي لم تتشبع بالوعي الإسلامي وصيرورته التاريخية والاجتماعية وبإنتاجه المعرفي والثوري طيلة قرون، إضافة إلى عجزه عن إرساء مشروع يعزز الديمقراطية وحكم القانون، وذلك لعجز في مقارباته التي أغفلت القضايا الأساسية.

معوقات التشكل

لم يغادر اليسار الإسلامي منذ نشأته مربع التنظير والطرح الفكري والثقافي الصرف إلى دوائر الفعل الواقعي من خلال الأحزاب أو المشاركة في السلطة، ويعود ذلك لعدة أسباب موضوعية ومادية، ويكمن أهمها في كون رموز هذا التيار هي من النخب والأكاديميين الذين تضيق بهم الأوعية الحزبية وتخنقهم التراتبية المؤسساتية.

كما أن عملية الإنتاج الفكري والمعرفي تشترط التحرر من قيود المؤسسات، لذلك اختار أغلب المنظرين لهذا التيار الاشتغال بالفكر المحض والتفرغ للمراجعات النقدية، ما ساهم في بقاء فعل هذا التيار ينحسر في دوائر نخبوية كالمنتديات واللقاءات أي أن عملية تغيير الواقع لم تتنزل حقيقة على الأرض.

من جهة أخرى فإن الأدبيات التي قام عليها هذا التيار التي تستثني عمليًا محاولات الوصول إلى السلطة من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي نظرًا لافتقاده الإسناد التنظيمي وجماعات الضغط وعجزه عن تحشيد التمويلات، إضافة إلى حالة القمع التي شهدتها تونس وبعض البلدان العربية في فترة التسعينيات إبان حكم ديكتاتوريات بن علي ومبارك أفقدت هذا التيار قدرته على الانتشار والتغلغل الاجتماعي، خاصة أن هذه الأنظمة لعبت على ثنائية الإسلاميين والعلمانيين وهمشت ما دونهما.

أما فيما يتعلق بإعادة التشكل، فيؤكد المحلل السياسي التونسي أنه من غير الوارد أن يعاود اليسار الإسلامي النشاط أو أن يتشكل في تنظيم حزبي، وذلك لأن الحراك الاجتماعي (الثورات الشعبية) صار أمرًا واقعًا، ما يعني أن هذه المرحلة تجاوزت هذا التيار الذي أعاد المعارك التقليدية بين الإسلاميين واليساريين إلى الواجهة أي أعاد إنتاج نفس الصراع الإيديولوجي.

في مقابل ذلك، أوضح الجورشي أن هذا التيار كانت له مزايا كبيرة على ما يُسمى الآن بالإسلام السياسي، ففي تونس ساهم التقدميون الإسلاميون في بلورة المنهج الجديد لحركة النهضة وصياغة بنية قواعدها التنظيمية والفكرية ما جعلها تحتل مكانة في الخريطة السياسية.

اليسار الإسلامي بمنظور فرنسي

على عكس اليسار الإسلامي الذي نشأ في ظل حراك فكري لنخبة عربية سعت إلى وضع مشروع نهضة حديثة على أساس المرجعية الدينية والحضارية، فقد نشأ مفهوم اليسار الإسلامي في الغرب وتحديدًا بفرنسا عام 2002، من عالم الاجتماع المؤيد للاحتلال الصهيوني بيير آندريه تاغييف لتشويه مصداقية دعم اليسار للمقاومة الفلسطينية حماس، فالمصطلح استخدم لنزع الشرعية عن مقاومة المجتمعات التي تتحد أنظمة الاحتلال.

ففرنسا تعمل عبر أدواتها الدعائية والدينية المتطرفة على الزج بكل ما هو إسلامي إلى زاوية النقد والتهجم، وتستهدف كل صوت يُنادي إنتاج معرفة حرة متحررة من قيود السلطة، وتقف حاجزًا أمام الالتقاء الفكري بين الإسلاميين كنخب والتيار اليساري الليبرالي المنفتح، في مقابل ذلك تواصل باريس اعتماد مقاربتها الفاشية التي تجمع بين أصحاب المشروع التحديثي التقدمي الإسلامي والمتطرفين.

من هذا الجانب، يؤكد صلاح الدين الجورشي، أن فرنسا روجت لمصطلح اليسار الإسلامي الذي يختلف جوهريًا مع التيار الذي عرفه العالم العربي وتونس، من أجل تجاوز الانتقادات التي طالت الدولة المتمثلة في سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون المعادية للجالية الإسلامية التي تقوم على أساس الربط غير الواقعي بين الإسلام وانتشار التطرف في قلب أوروبا.

ولد اليسار الإسلامي في وقت عرف فيه العالم العربي والإسلامي نكسات وأزمات عديدة فعمل على بناء مشروعٍ نهضوي يقوم على مبدأ الانتقاء العقلاني من التراث الإسلامي لاستلهام الثورة والتحرر من النص من أجل تغيير الواقع وإرساء العدالة بأنواعها الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الثورات التي قامت في أكثر من بلد عربي تجاوزت هذا التيار وأطفأت جذوته، فعادت المعارك القديمة بين التيارين التقليديين يمين ويسار.

التعليقات معطلة.