روجر أوين
أميركا هي دولة غنية وقوية. ولكنها اليوم منقسمة بشدّة بسبب مزيج من الخوف والحزن والقلق والسياسة الشريرة في شكل متزايد. ويصادف عيد الشكر تقليدياً في رابع يوم خميس من شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو يوم تكرّسه غالبية الأميركيين لاجتماع العائلة في جوّ من اللحمة والنوايا الطيبة. إلا أنه في هذه السنة، واجه الناس معضلةً غير اعتياديّة: فهل يقولون كلّ ما يجول في خاطرهم عن بلدهم وحاله، أو يكتفون بتناول العموميات الممتعة، ويعتبر كثيرون من الحاضرين أنّها بعيدة إلى حدّ مزعج عن واقع الأمور.
من المعلوم أن تاريخ عيد الشكر في أميركا يجمع بين عادتين تاريخيتين أساسيتين: الأولى أوروبية تتمثّل بالاحتفال بحصاد آخر السنة، والثانية مستنبطة من الأساطير التأسيسية في مطلع القرن السابع عشر، وتجمع بين السكان الأميركيين الأصليين وبين الوافدين الجدد من بريطانيا بحثاً عن الحرية. ويُروى أنهم كانوا يجلسون مع بعضهم البعض حول مائدة من الديك الرومي والذرة وحلوى اللقطين. وبغض النظر عن أن معظم المؤرخين الحديثين يتهكّمون من سذاجة هذه المعتقدات، إلا أنها لا تزال من المناسبات الجيدة غير الطائفية التي، على رغم الاحتجاج الرمزي عليها بين الحين والآخر، تُواصل توحيد الشعوب والعائلات بطريقة لم يستطع عيدا الميلاد أو الفصح عند المسيحيين أو الفصح اليهودي فعله أبداً. فلا حاجة إلى الهدايا المكلفة أو الخطابات الرنانة أو الموائد المترفة، بل يكفي الالتفاف حول وجبة مشتركة تحثّ الأولاد والأحفاد على العودة إلى منزل الأسرة بالقطار أو الطائرة أو السيارة، أو حتى السفر لعدة أيام في بعض الأحيان.
ويبدو أن الأمور كان يجب أن تكون على هذا النحو في أوّل مرّة أعلن فيها الرئيس لينكولن هذه المناسبة عطلةً رسميةً خلال الحرب الأهلية الدموية الأميركية في 1863، آملاً بأن تكون سبيلاً لبدء عملية الشفاء الذاتي ما بعد الصراع. بيد أنّه يتّضح، حتّى في الروايات الأساسيّة عن أصول وجبة عيد الشكر وغايتها، أنّه استحال دوماً غضّ النظر عن السياسة الكامنة وراءها، لا سيما هذه السنة، إذ تكثر المخاوف في الحياة الواقعيّة، بدءاً من اتهامات باطلة بين الأطراف المتنافسة، ترتكز على أخبار خاطئة، ومروراً بسوء تصرّف الرئيس ترامب وأعضاء الكونغرس، والأكثر إثارةً للهلع هو المخاوف المحقة من تطوير الأسلحة النووية في كوريا الشمالية. ولم يتوقّف الأمر عند اعتبار المرحلة الراهنة «عصر الشكاوى الذهبي»، إذ تبيّن أنّه عصر بلغت فيه الخلافات الشخصيّة أقصى حدودها، ورافقها طبعاً انعدام القدرة على الإصغاء إلى ما يقول جارك، في إشارة واضحة إلى وجود رغبة في التغطية على ما يقوله.
ولم يكن الوضع في عائلتي مختلفاً عن الوضع في العائلات الأخرى، إذ إننا اجتمعنا ليومين لنتشارك الديك الرومي ومن ثمّ ننهي ما تبقّى من أطباق العيد. ونظراً لحجم العائلة وتوزّعها الجغرافي، بما يشمل قدوم زوجين من العاصمة واشنطن، واثنين آخرين من الغرب الأوسط، لم يكن ممكناً ألا نتطرّق بطريقة أو بأخرى إلى مواضيع الساعة، على غرار الدعم المفاجئ الذي يحظى به الرئيس ترامب على الصعيد المحلي من المسيحيين الإنجيليين الذين من المفترض أن يعترضوا بشدّة على تصرفاته وعلى غياب الإيمان الديني الواضح لديه، ناهيك عن ظاهرة ذات طابع أكثر عموميةً، يتمثّل بحملة «أنا أيضاً» Me Too، التي بدأت أخيراً تستقطب الأنظار إلى ممارسات التحرّش الجنسي المنتشرة بشدّة. بالتالي، كان الإقدام على أيّ أمر آخر سيبدو إلى حدّ كبير كتردّد للرواية المعروفة عن الإمبراطور نيرون، الذي كان يعبث بينما كانت روما تحترق، في ما يُعتبر من الأعمال غير المنطقيّة التي تنمّ عن انعدام المسؤوليّة المدنيّة.
وأخيراً، ثمّة مخاوف هائلة من تداعيات مشروع قانون إصلاح الضرائب المقترح من الجمهوريين، إذ إنه مشروع لم يُدرَس في شكل جيد وكُتب بسرعة، وهو لا يطاول فقط كمّ الضرائب الذي سيسدّده كلّ منّا، بل يتناول أيضاً شروط استفادتنا من بنود قانون الرعاية الصحية الميسّرة الذي أطلقه الرئيس أوباما، وهي مسألة شكّلت بدورها مصدر قلق إضافيّ، وقد ازدادت الأمور سوءاً على خلفيّة الحملة الإعلانيّة الدخيلة التي أطلقتها شركات التأمين الصحّي، لحض الجميع على تسديد رسوم جديدة على بوالصهم، توقّياً من أي أمر غير متوقّع.
هذا ما يجري حتّى الساعة. لكن كما هو الوضع بالنسبة إلى الأمور الأخرى في أميركا التي يترأسها ترامب، لا بدّ من توخّي الحذر، والامتناع عن هدر الوقت على أفكار ليبراليّة بديهيّة تحوّر اهتمام المرء عن أنشطة أكثر خطورةً، من بينها نشاطان يبدوان أكثر جدية من غيرهما، الأول هو اقتراح الرئيس بتعيين قضاة محافظين صغار في السن، من بينهم نيل غورسوش، وعمره خمسون سنة، الذي تمّ استقدامه إلى المحكمة العليا، ما يمثل خطراً ببقاء الغالبيّة المناهضة لليبراليين لعقود طويلة في المستقبل. أمّا النشاط الثاني، فهو توكيل محافظ آخر بإجراء إحصاء عام 2020، وفي الأمر تداعيات هائلة على إعادة تقسيم حدود المناطق الانتخابية لمصلحة مجتمعات ومجموعات يرجّح أكثر أن تصوّت للجمهوريين وتفضّلهم على الديموقراطيين.
أما بالنسبة إلى البدائل الممكنة، فهي أيضاً تطرح مخاوف مبررة من أن تجرّ البلاد إلى المجهول. ولنفترض على سبيل المثال أن تكون لجنة تحقيق مولر قد قررت أنها تملك أدلّة دامغة على تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية في عام 2016، فلا عجب بالتالي من أن يكون النقاد قد قرروا أن يسخروا من الوضع، إذ اقترحوا تسمية عيد الشكر في عهد ترامب بـ «عيد الضغط النفسي»، بالنظر إلى أنّ هذا هو بالتحديد الشعور الذي ينتابنا بالنظر إلى ما آلت إليه الأمور.