ابراهيم العبادي
ربما ينفرد العراقيون كثيرا عن بقيةشعوب الارض في عشق الماضي وكراهية االحاضر ونسيان المستقبل ،نادرا مايحسن العراقيون التفكير بمستقبل بلادهم ،انهم مغرمون بالمفاضلات والمجادلات ومقايسة الحاضر بالماضي ، يعيشون على الذاكرة وصورها المنتقاة تجميلا ،ليدينوا حاضرهم ، دون ان يتعلموا دروس تاريخهم ويتفادوا اخطاءه .حينما تستولي معارك التاريخ والذاكرة الحية على مجمل التفكير السياسي ،تضيع امكانية الاستشراف وتستنزف القدرة على رؤية المستقبل بعيون مفتوحة وعقول مدركة لمكر التاريخ وارتداداته المهلكة .
خمس وستون عاما مضت على الاطاحة بالملكية وتاسيس الجمهورية ،ومازال الناس في العراق يتجادلون عما اذا كان انقلاب العسكر بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم ثورة كما ثورات العالمين ؟ ام نزوة ،فتحت ابواب الجحيم على العراق، قلبت الحكم بمذبحة وحولته الى لعبة بيد الصبيان والمراهقين وشباب الميليشيات الحزبية فصاروا يتقاتلون بالشوارع وعيونهم على السلطة .
افدح الخسائر واكبر الفضائع التي ارتكبت بحق العراق واجياله ،كانت تحويل الحكم وشرعيته الى لعبة قوة اداتها العنف والعنف المضاد ،ثم تجد من يسبغ على كل ذلك مسميات وافعال جميلة بغواية اللغة واغراءاتها ،فيغدو مشهد الدم فعلا ثوريا ضروريا ،ويصير التلاعب بمصير الناس معركة مصير وقفزة الى اعالي المجد .
65 عاما مضت وماتكاد اسئلة الذكرى تفارق العقل السياسي العراقي ،بين مادح وقادح ،ومهاجم ومدافع ،وصار استذكار يوم 14 تموز 1958 مناسبة للتعبير عن رؤيتين تتصارعان في حاضر العراق .
ترى الرؤية الاولى ان الانظمة المحافظة والملكية بكل مساوؤها وارتهانها للقوى الاستعمارية افضل بكثير من الانظمة التي خلفتها ،فلايمكن بحال مقارنة حكومات العسكر المتصابية -مهما انجزت من انجازات واحدثت من تغييرات ،-بالنظام الملكي وحكوماته وسياساته الداخلية والخارجية ،بل ان النتائج الكارثية التي ترتبت على كثير مما عرف باصلاحات الجمهورية تثبت ارجحية وافضلية مسار العهد الملكي بما فيه من استقرار نسبي وحريات مقبولة وبناء منطقي لمؤسسات الدولة مع تسيد نخبة مدينية ارستقراطية وبرجوازية للمشهدالسياسي .كل ذلك سمح للدولة ان تستقر على اساسات مقبولة رغم عبوب تأسيسية كبيرة ،بالمقارنة مع مؤسسات العسكر والاحزاب الايديولوجية الجديدة فان مسار التنمية تشوه هيكليا ودخلت بلدان الحقبة الجمهورية بمتاهة الصراع السياسي العنيف وصارت البلدان ادوات في حروب القوى الدولية الباردة والساخنة وانجرفت السياسات الداخلية الى عنف واستبداد ودماء وتشريد وتبخرت مداخيل الثروة وانهارت قيم الانسان بما فيها معاني الوطنية والانتماء .
صراع الرؤيتين تمثيل لصراع الاتجاهات السياسية في عراق اليوم ،حيث الامتدادات الجديدة للعقل الثوري السابق ومفاهيمه وانفعالاته وشعاراته، والاتجاهات الموازية الداعية الى العقلنة السياسية والتروي في المواقف وحساب المصالح بدقة في عالم ماتت فيه الايديولوجيا وحضرت فيه المصالح .
لم ينجز العراقيون بل لم يتفقوا على مسار بناء الدولة حتى اليوم ،وماذلك الا بسبب ضحالة الثقافة السياسية السائدة ،اذ لم تتطور كثيرا بنية هذه الثقافة ولم يحصل تحديث ونقد لمفاهيم الاستقلال والوطنية ولم يجر نقد صريح للايديولوجيات التي تصارعت مفاهيميا وماديا على ارض العراق ،ومازال العراقيون على انقسامهم بين تيارات تدعي الصوابية مستعدة للدفاع عن وجودها في السلطة بقوة السلاح لا بقناعة وتاييد ودعم الراي العام وصناديق الاقتراع .
ذكرى تموز تعيد للنقاش والجدل العام مفاهيم بناء الشرعية والحريات والتداول السلمي والتعددية والديمقراطية والانتخابات وممارسة السلطة بمعنى التفويض والوكالة عن الشعب والسيادة بمحددات عراقية ،محددات الجغرافية والتاريخ المأزوم والحاضر المتخم بانواع الازمات والتحديات .