سعود بن علي الحارثي
الرأسمالية (نظام اقتصادي ونمط إنتاج يقوم على مبادئ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والمبادرة الفردية والمنافسة الحرة وتقسيم العمل وتخصيص الموارد عبر آلية السوق دون الحاجة إلى تدخل مركزي من الدولة). ويؤمن النظام الاقتصادي الرأسمالي ب(الربح المادي محفزا للأفراد على المبادرة والمخاطرة واستثمار رؤوس الأموال لكسب المزيد من الأرباح ومضاعفة الثروات). ويقصد برأس المال (كل الأموال التي يمكن استثمارها بقصد جني الأرباح)، بما في ذلك (الأصول التي يمكن توظيفها في عملية الإنتاج، من عقارات ومنقولات ومعدات وسلع ومواد أولية وأوراق مالية وحقوق ملكية فكرية، فضلا عن الأصول السائلة).
وتعمل معظم اقتصاديات الدول الكبرى والناشئة اليوم بمبادئ النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي تبلورت آلياته وسماته وتطورت أسسه وأنظمته وممارساته عبر مراحل تاريخية ثلاث، هي: (الرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية والرأسمالية المالية). أما اقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر، فيعبر عنه بـ (النظام الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية)، وتعد الليبرالية الاقتصادية مكوّنا أساسيا من مكوناتها، وتقوم على (عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية وترك السوق يضبط نفسه بنفسه). بمعنى أنه (على الدولة الا تقوم بأي نشاط اقتصادي يستطيع فرد أو مجموعة أفراد القيام به).
وقد تعرضت الرأسمالية لاختبارات وأزمات وشهدت نقاشات وجلسات عصف فكري بين خبراء وأساتذة الاقتصاد، وطرحت تساؤلات عميقة حول علاقة الدولة بالاقتصاد أو دورها في (الحياة الاقتصادية) وظل الخلاف محتدما بين من يطالب بتولي الدولة توجيه الاقتصاد والتدخل للحد من تأثيرات الكساد ورقابة الاسواق وتحفيزها وتنظيمها والإشراف عليها، ومن يرى ضرورة إطلاق الحرية لها لتنظيم واصلاح نفسها وقيادة وتطوير نظمها بعيدا عن رقابة الدولة، وهو الفكر الذي تبنته معظم الاقتصاديات الغربية أخيرا، والكثير من المحللين والخبراء في الغرب يلقون عليه تبعات الأزمات المالية والاقتصادية التي ضربت العالم، منطلقين من حقيقة أنها سوق منفلتة من قبضة الدولة، بل إن السوق هو الذي يهيمن على الدولة.
ففي أزمة ٢٠٠٧م رفضت الخزانة الأميركية في المرحلة الاولى التدخل لإنقاذ المصارف والشركات الكبرى على ضوء مبادئ حرية السوق، لكن الانعكاسات الخطيرة وتوالي الهزات والانهيارات فرضت حتمية تدخل الحكومة لإنقاذ الموقف، وعلى الرغم من انقضاء سنوات على تعافي الاقتصاد العالمي، إلا أن الفكر الرأسمالي لم يقم بتصحيح أوضاعه وتحديث أنظمته وتعزيز الضوابط وآليات المراقبة والاشراف، وهو ما سوف ينعكس على المستقبل في أزمات مالية أخرى قادمة ستكون أشد وأسوأ من السابقة، وفقا لتصورات العديد من الخبراء.
الكتاب الذي صدر عن عالم المعرفة في ٢٠١٠ تحت عنوان (انهيار الرأسمالية أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود) للكاتب أولريش شيفر وترجمة الدكتور عدنان عباس علي، من أهم الدراسات التي ناقشت ملف الرأسمالية وألقت الضوء باستفاضة على الصراع بين قوة الدولة والسوق وسيطرة الاقتصاد المحرر من القيود على العالم. ويحملها الكاتب مسئولية التفاوت في توزيع الدخول والثروات والتعليم وتوزيع مخاطر الأخطاء التي يرتكبها قادة الشركات فيما يتحملها العمال البسطاء، والتهرب الضريبي، والاستسلام للجشع في نظام منفلت لم يعد يخضع للضوابط والقوانين وأخلاقيات السوق، ومن أجل جني ثروات طائلة من المال فإن المستثمرين (تجاهلوا كل المقاييس والمعايير فهم اشتروا شركات ما كان لها مستقبل قط. واحتفوا بأبطال، ما كانوا أبطالا قط. ووثقوا بإرشادات خبراء في شؤون الأسهم، تبين أنهم ما كانوا خبراء، بل نصابين لا ضمير لهم ..) .
يصف الكاتب عالم اليوم الذي يحكمه اقتصاد السوق الحر بأنه (عالم مثير للحيرة والارتباك، فكل شيء فيه له علاقة وثيقة بالأشياء الاخرى: البورصة في شانغهاي على علاقة متينة بمثيلتها في نيويورك، والقروض والعقارات الأميركية على صلة وثيقة بالمدخرات الالمانية، وفرصة العمل في فيتنام وثيقة العلاقة بفرصة العمل في برلين، والين الياباني على ارتباط متين بالعملة الصينية..). مضيفا بأن إصدار المصارف لأوراق مالية (مكفولة بقروض عالية المخاطر المشكوك في قيام المقترضين بتسديدها) والتي انتقلت من (مستثمر إلى آخر) تحولت إلى (قنبلة عظيمة الطاقة التفجيرية) فهي بمثابة ثورة (خلقت عشرات الآلاف من المؤسسات الجديدة الناشطة في أسواق المال)، والتي تتاجر بـ (الاسهم والقروض وأوراق مالية غاية في التعقيد). ومصارف استثمار لا يتوافر لها زبائن يحتفظون لديها بودائعهم وحساباتهم الجارية وإنما تستدين ما تحتاج إليه من أموال من أسواق المال. ولا تخضع لرقابة مالية صارمة فالبنك المركزي غير مسئول عنها، وهكذا (صارت بيوت المال الناشطة في ((وول ستريت)) تخضع إلى قيود واهية الى حد ما، وتستطيع تحقيق أعظم الأرباح). منذ الكساد المالي الذي ضرب العالم في الثلاثينيات من القرن الماضي مرورا بأزمة دول شرق آسيا والمكسيك وغيرها وانتهاء بأزمة ٢٠٠٧ – ٢٠٠٨ قدم المؤلف عرضا للأوضاع الاقتصادية التي شهدها العالم وأزماته المالية كاشفا ثغرات الرأسمالية والهوة العميقة بين التنظير الذي يرفع شعار حرية السوق وإفساح المجال لها لتصلح نفسها بنفسها بعيدا عن تدخل الدولة، وبين التطبيق الذي كشفت الازمة المالية في ٢٠٠٨ فشله، فلم تتمكن الأسواق من استعادة قوتها ونشاطها الا بتدخل الدول التي اضطرت إلى الإعلان (لمواطنيها أنها تضمن كل ما في حساباتهم المصرفية من مدخرات)، فيما أعلن وزير الخزانة السابق البريطاني (خطة انقاذ تتكون من ٤٠٠ مليار جنيه) وفي المانيا قررت ميركل تخصيص (٥٠٠ مليار يورو) لإنقاذ الاقتصاد الالماني. وفي امريكا (هرول وزير الخزانة هنري باولسون إلى مبنى الكونغرس ليشرح للنواب خطته القاضية بأن تخصص الدولة ٧٠٠ مليار دولار امريكي لإسعاف وول ستريت). وعندما رفض الكونجرس مشروع الانقاذ (انهارت أسعار الاسهم انهيارا كبيرا حيث خسر الداو جونز ٧٧٧ نقطة مقدارا ما له مثيل في سابق الزمان). الفصل الاخير من الكتاب الذي أطلق عليه المؤلف (برنامج مضاد للسقوط في الهاوية) ضمنه جملة من الأفكار والابتكارات لحماية اقتصاديات العالم من الانزلاق الى(الهاوية)، من أهمها: يجوز للدولة إسعاف المصارف في مقابل إخضاعها لتوجيه حكومي صارم. فرض ضوابط صارمة على صناديق المخاطر. منع المتاجرة بالبضائع المالية العالية المخاطر. وضع سقف علوي للرواتب التي يتقاضاها كبار موظفي المصارف. قيام سلطة رقابة عالمية للرقابة على أسواق المال. إزالة الواحات الضريبية من العالم. التخلي عن سرية الحسابات المصرفية التي تدر النفع على الأغنياء. زيادة العبء الضريبي على الأغنياء وتخفيفه عن كاهل الطبقة الوسطى. ضرورة فرض حد أدنى لأجور جميع العاملين. ضرورة تقديم تعليم أفضل للشرائح الدنيا من المجتمع. التوسع في الإنفاق عندما يتعرض الاقتصاد الوطني لركود عنيف. في أيام الرخاء على الدولة أن تدخر لا أن تواصل الاقتراض. يجب ان يكون الاقتصاد مرنا إلى أبعد حد ممكن. وختم كتابه مؤكدا على ان (الاقتصاد الناجح في حاجة إلى الأمرين: دولة لا تتدخل بقوة وصرامة في حقب الازمة فقط، بل تراعي أيضا أهمية أن ينمو الاقتصاد ويتطور في حدود بينة المعالم وبأوسع مدى معقول من الحرية).