اهتمام الفلسفة بفيلم “ماتريكس” دفع الجمهور لمشاهدة أجزائه

1

سؤال حتمي عن جدية التعاطي مع الثلاثية التي حققت أرباحاً تفوق المليار دولار

إبراهيم العريس  باحث وكاتب 

مشهد من الجزء الأول من “ماتريكس” (موقع الفيلم)

أمران أسهما من دون أدنى شك في الأرباح الهائلة التي حققتها حتى الثلاثية السينمائية “ماتريكس” في انتظار طرح جزء جديد يجعلها رباعية. فمن بين المليار ونصف المليار دولار التي جناها مجموع أفلام الأخوين (وأصبحا لاحقاً الأختين، كما سنرى بعد سطور)، هناك ما يناهز المليار حققتها الأفلام الثلاثة الأساسية التي يحمل معظمها توقيع “واشوفسكي“، وتدور من حول موضوع واحد تقريباً. وثمة من بين النقاد ومؤرخي السينما من يقسم لك اليوم أن هذا الرقم الخيالي الناتج من عروض أفلام الثلاثية التي عرضت بدءاً من عام 1999 وحتى عام 2003 الذي عرض فيها الجزآن الثاني والثالث، من الصعب الافتراض بأنها تحققت بفضل “سينمائية” هذه السلسلة من الأفلام. مؤكدين أن ثمة أمرين أسهما أساساً في تحقيقها أولهما صحافة الفضائح، علماً بأن ليس ثمة في أفلام السلسلة ما يشير إلى الفضيحة أو يدنو منها، والثاني – بالنسبة إلى جمهور النخبة الذي تبين أنه جمهور عريض جداً إن اقتضى الأمر. ولنبدأ هنا بالحديث عن الأمر الأول.

من باب الفضول

ففي عام 2016 أعلن أحد الأخوين بنفسه أنه تحول إلى امرأة بفعل عملية جراحية وبات يسمى ليلي، وبعد فترة جاء دور الأخ الآخر ليعلن خبراً متطابقاً يتعلق به هو الآخر. وهكذا تحول الأخوان واشوفسكي إلى لانا وليلي وباتا يعرفان بالشقيقتين السينمائيتين واشوفسكي. وهنا إذ كانت الثلاثية المعروفة بـ”ماتريكس” قد مضى على اكتمالها نحو 13 عاماً كان من الطبيعي أن يتدافع الجمهور العريض، وعلى الأقل من باب الفضول، لمعرفة ما إذا كان ثمة في سلسلة الأفلام ما يدفع إلى توقع مثل ذلك التطور الغريب. فلئن كانت قد جرت العادة على توارد أنباء عن تحولات من هذا النوع بحيث بات الخبر لا يستوقف أحداً، لا شك أن تحول شقيقين معاً بالطريقة نفسها يطرح تساؤلات كثيرة. لكننا سنوقف الحديث عن هذا الأمر بالنظر إلى أنه ليس موضوعنا هنا. موضوعنا هو الأمر الثاني الذي صنع لسلسلة “ماتريكس” جزءاً أساسياً من شهرتها وإن كان من الصعب تصور أنه هو ما أسهم في تدفق الجمهور العريض. ولسوف يبدو هذا واضحاً من مجرد أن نذكر أن هذا الأمر الثاني له علاقة بنخبة النخبة وبشكل أكثر تحديداً بما يتعارف في البلاد الأنغلو ساكسونية على تسميته “الفلسفة الفرنسية الحديثة” أو french theory، وهو الاسم الذي يطلق عادة على مجموع النتاج الفكري لعدد من كبار المفكرين الفرنسيين الذين جددوا في الفكر الفلسفي العالمي ويرى كثر أن بعضهم قد أسهم بكتبه وأفكاره في انتفاضات شبيبة العام 1968 لكن فكرهم ظل على أية حال محصوراً في أوساط النخب ولم يعلن أي منهم صراحة مسؤوليته عما حدث عام 1968. غير أن فيلم “ماتريكس” ومنذ جزئه الأول رأى أبعد من ذلك.

baudrillard getty images.jpg

جان بودريار (1929 – 2007) الذي لم يحب الفيلم (غيتي)​​​​​​​

فيلسوف فرنسي في الحوارات

ففي سياق الفيلم ثمة الكثير من الحوارات التي تتعلق بالأمور الجديدة الكثيرة التي تدور من حول التفكير الفلسفي في ما كان قد بدأ يستجد فعلاً في مضمار العلاقة بين الافتراضي والواقعي. بل ثمة إشارات بالاسم تتسم بعمق شديد وغوص في أفكار ذاك الفيلسوف الفرنسي المعتبر عادة من أصعب أساطين المجموعة، جان بودريار (1929 – 2007) والذي سيفتتح “قاموس فكر السينما” الصادر بعد رحيله بسنوات – والمترجم إلى العربية عن منشورات “مشروع نقل المعارف” في البحرين -، مادته عنه بالتأكيد على أن “للأفلام الروائية، والسينما الأميركية بشكل خاص وعلى الأقل منذ عام 1981 مكانة مركزية في كتابات بودريار” وعلى أن “فكر بودريار يكاد يسكن السينما الأميركية”، لكن تلك المادة لا تشير إلى أن بودريار نفسه والذي شاهد جزءين على الأقل من “ماتريكس” لم يحب الفيلم ولا أفكاره. ولكن هل كانت عاطفة المفكر لتهم أحداً بعدما جعل له الفيلم في حواراته والتركيز على علاقة السينما بالزمن، ما يؤهل كثراً من مشاهدي الفيلم للافتراض بأن بودريار إنما هو المنظر الأساسي لفكرة “رصاصة الزمن” التي تلعب دوراً كبيراً في العلاقة بين ما هو افتراضي وما هو حقيقي في الفيلم؟. وكان مثل هذا الخلط قد حدث سابقا وتحديداً لدى بودريار نفسه الذي كان قد سبق له أن قام بتحليل معمق لفيلم “اصطدام” الذي اقتبسه دافيد كروننبرغ عن رواية لجي. جي بالارد تحمل العنوان نفسه. فبالنسبة إلى “اصطدام” (1996) حدد بودريار أن ما هو جوهري في الفيلم يكمن في أن مفهوم الاصطدام نفسه هو “جهاز نظري يتأمل في قضية المظهر الخادع وتجسّده” تماماً كما ستفترض ثلاثية “ماتريكس” لاحقاً أن ما لدينا هنا إنما هو جهاز نظري يتأمل بدوره ولكن في انطلاق من مفهوم الزمن في العلاقة بين الواقع والمظهر الخادع”.

في خضم العالم الافتراضي

لكن ما هو على المحك هذه المرة، وبشكل متوسع أكثر بكثير مما كنت عليه الحال بالنسبة إلى “اصطدام”، إنما هو دخول الإنسان في جدليات العالم الافتراضي من طريق هيمنة الحاسوب على حياة البشر وما جرته تلك الهيمنة بالنسبة إلى عالم واقعي بات يمحي أمام العالم الافتراضي. إذا ها نحن ذا أمام ما حلله بودريار بالفعل قبل استشراء هذا العالم الأخير ولا سيما عبر تفكيكه للزمن والمعرفة كما عهدناهما منذ ولادة الوعي الإنساني. لكن هذا كله أتى مبسطاً وبالتالي ما كان يمكن لفيلسوف تركيبي من طينة بودريار أن يرضى بمثل ذلك التبسيط. ومن هنا ها هي اليوم دار “إيليبس” الفرنسية المتخصصة في الكتب الفلسفية ولا سيما في تقنيات الفلسفة، تحاول عبر كتاب أصدرته قبل سنوات بعنوان “ماتريكس آلة فلسفية” ليس أن تصالح بين الفيلم والفيلسوف الفرنسي الراحل، بل أن تجمع تحت هذا العنوان الذي قد يحمل دلالاته في ذاته، مجموعة دراسات كتبها فلاسفة محدثون من بينهم تلامذة لبودريار ومعارضون له ومعارضون لـ”ماتريكس” ومناصرون لفكرانيته التي اعتبروها تجديداً في العلاقة بين السينما والفلسفة. ولا شك أن مثل هذا التوليف يحمل من الجدة والجدية ما من شأنه أن يتوج أخيراً تلك الجهود الفلسفية التي لا تزال وحتى منذ فجر السينما تطرح عليها أسئلة عميقة تريد أن تأخذ الفن السابع إلى ضفاف لم يسبق له أن ارتادها أو ارتادها بخجل شديد ومن طريق فلاسفة كبار تساءلوا يوماً وكل على طريقته، السلبية أو الإيجابية، عما إذا كان ثمة حقاً من جامع بين نمط فكري ولد مع بدء الإنسان في تفكير الكون والزمن من حوله، من ناحية، و”فن” لا يزيد عمره اليوم على قرن وربع القرن ومع ذلك تمكن من أن يكون مالئ الدنيا وشاغل الناس، أولاً في بداياته في احتوائه على كل أنواع الفنون في مضماره، وبعد ذلك في تحميل علماء اجتماع وفلاسفة وغيرهم عبء الدنو منه لتفسير دالته على عالم القرن العشرين بأسره وصولاً إلى النظر إليه بوصفه، أيضاً، جهازاً فلسفياً، وربما تحديداً على خطى جيل دولوز الذي استنبط حتى في كتابيه المؤسسين “الصورة – الحركة” و”الصورة – الزمن” كما في دروسه الجامعية التي تجول عبرها في مفاهيم السينما وتاريخها، استنبط حتى من كتابات برغسون حول الزمن ما يمكن أن يعني فن السنما الذي لم يعرفه برغسون حقاً.

لماذا نسوا موران؟

إذاً ها نحن في إزاء “ماتريكس” وتحت إشراف جان بيار زارادير، نتتبع كتابات عدد من أبرز الباحثين في السينما والفلسفة من أبناء الجيل الأجد في هذا السياق (من آلان باديو إلى إيلي دورنغ وتوماس بن الطويل وغيرهم)، نعود إلى فيلم بنى جزءاً من فكرانيته “الفلسفية” على تحليلات واحد من كبار أقطاب الفلسفة الفرنسية، لواحد من الأفلام الأكثر طموحاً من ناحية عصريته وبعده الفلسفي، ما يثير سؤالاً يبدو اليوم عويصاً على أية حال وتكمن أهميته في استناده إلى قول للكاتب الفرنسي الآخر الذي اهتم بالسينما وهو إدغار موران الذي لن يكون من العدل أن يُنسى في هذا السياق نفسه كتابه المبكر والأساسي “السينما والإنسان المتخيل”.

التعليقات معطلة.