بقلم : ميشال كلاغاصي
كان ولازال الدور الذي لعبته تركيا من أهم وأعقد وأخطر الأدوار التي لعبتها كافة الدول والأطراف التي انخرطت في الحرب والصراع في سوريا , وتجاوزت من حيث الأهمية وفعالية التأثير أدوار دولٍ عظمى وكبرى وكادت أن تتفوق على الولايات المتحدة الأميركية نفسها , فقد تشابكت علاقاتها وتنوعت أدوارها وتحركت أحلامها وشَحذت أطماعها, بحكم موقعها وطول حدودها مع سوريا , بالإضافة لما سخرّته من إمكاناتها وعدوانها وفي استجلاب ودعم وتدريب وتأمين عبور السلاح وكافة التنظيمات الإرهابية نحو الداخل السوري.
فقد انخرطت في صراعٍ ما كان ليتطور ويصل إلى ما وصل إليه اليوم لولاها , ويبقى السؤال عن طبيعة الهدف والوعد الكبير الذي دفعها للعودة ثانية لساحات المعارك , وارتكابها المزيد من الجرائم التي تضاف إلى تاريخها الدموي الإجرامي النابع من طبيعتها الإستعمارية والمتمثلة حديثا ً بشبق حكومة عدالتها وتنميتها الأردوغانية في العودة لأيامٍ خلت دامت وامتدت فيها السلطنة العثمانية لأكثر من ستمائة عام وعلى مساحة كادت أن تشمل العالم القديم كله , وخاضت لأجلها الحروب حتى العالمية منها , إلى أن وضع التاّمر الغربي حدا ً لها , وحوّلها إلى جثة رجلٍ مريضٍ واقتسم تركتها المسروقة أساسا ً.
أوهامٌ وأحلامٌ بائدة نسجتها واشنطن لجام خيلٍ لجرّ عربتها في سوريا .. إذ ضخت أكاذيبها في عروق أصحاب الحلم الكردي الإنفصالي والأوهام الإخوانية , واستخدمتهما لتحقيق أهدافها ومطامعها في سوريا , على الرغم من وفاتهما في كردستان العراق ويوم تحرير حلب , ناهيك عن شهادة الوفاة الإخوانية الصادرة عن كافة دول العالم بما فيها دولة المنشأ البريطانية , وكافة دول الإستثمار كأميركا وفرنسا , ووضع التنظيم على لوائح الإرهاب , وإسقاطه في تونس ومصر عن سدة الحكم بعد أشهر قليلة من التهييج والشحن لرفع الكفاءة والفعالية والمردود في غير دول… بالإضافة إلى سلوك أردوغان الذي جعل أوروبا تميل لعزله عن العالم العربي والإسلامي بعدما أخافها بقدراته في تغذية الإرهاب , وبالنسب العالية للشباب التركي المتطرف , وعبر خزاناته “البشرية” في الدول العربية وفي دول الشرق الأدنى في تركستان وشرقي الصين والتيبت عبر الإيغور– العثمانيين اللذين يعتمد عليهم في عودة “العثمانية الجديدة”…
تضارب المصالح الأميركية – التركية في الشمال السوري .. لطالما رفضت واشنطن إقامة المنطقة العازلة – التركية في الشمال السوري وتحديدا ًغربي الفرات , لكنها كانت تصطدم بحاجتها للدور التركي , فتلجأ للتهدئة والمرواغة والخداع كلما ارتفعت حرارة الخلاف , وأخفت رفضها عبر تظهير أرجحتها بين المشروعين الكردي والأردوغاني , في الوقت الذي كانت تتخذ فيه مواقف ضد الدولة التركية , كإبعادها عن معارك الرقة وحرمانها من نيل حصتها في أكذوبة قتال “داعش”, و بإستمرار دعمها للأكراد وتسليحهم على حساب خداعها مرارا ً, الأمر الذي أفضى إلى إنعدام الثقة التركية بواشنطن , وبما يفسر إنزياحها وإقترابها جزئيا ً من موسكو و إيران , يبدو أن أردوغان يستشعر مرارة الخديعة الأميركية في سوريا , ولا يزال يخشى غضبها وإنتقامها لأجل توقيعه “السيل التركي” مع موسكو على حساب نابوكو الأميركي..
واشنطن تستشعر نصف هزيمتها … بعد إنكشاف السياسة التخريبية الرعناء التي تنتهجها الإدارة الأميركية في إحتلال المزيد من الأراضي السورية وحيث تتركز اّبار النفط والثروات وحيث تأخذها مصالحها وعنجهيتها دون إكتراثها بالعواقب والمخاطر المترتبة على مصير ووحدة الأراضي والشعب والدولة السورية , ومع إصرار أردوغان على تمرير مشروعه , إتخذ قراره عبر ليّ ذراعها والقبض مسبقا ًعلى جائزته التي دخل الحرب لأجلها- في إبتلاع إدلب وكامل الشمال السوري من البحر المتوسط حتى جرابلس وبعمق 30 كم داخل الأراضي السورية -, فحرك طائراته ومدافعه واّلات الموت والإرهاب نحو عفرين معتبرا ً أن تهجير الأكراد في غربي الفرات فرصة ً ذهبية , ولم يُعر إهتماما ً لمواقف الدولة السورية التي رفضت العدوان وأعلنته إحتلالا ً مباشرا ً وأكدت حقها بمقاومته بكافة الوسائل المتاحة , كذلك لم ينصت للأميركان والروس والإيرانيين , واعتقد أنه قادر على إحتلالها خلال أيام ولم يتوقع أن تصمد عفرين أكثر من 20 يوما ً, وتأخر ليقرأ أنه غرق في مستنقعها.
لكن المفاجئة جاءت ومن العيار الثقيل وبضربةٍ سورية قاضية لكلا المشروعين الأميركي والتركي , فقد أرسلت سوريا قواتها الشعبية لتدخل عفرين وترفع العلم السوري وليهتف أهالي عفرين وكل من هبوا للدفاع عنها بإسم سيد الوطن وحملوا صوره و سارعوا للإنتشار في المدينة ومحيطها وتوزعوا على عشرات النقاط الحدودية , ياله من ذكاء إستراتيجي سوري مقابل الغباء التركي والصدمة الأميركية , لقد عرف الرئيس الأسد كيف يستعيد أبناء سورية ومواطنيها الكرد وتأمين حمايتهم ومنع تهجيرهم , وأصاب الغرباء وقادة الأحزاب الإنفصالية بمقتل , فيما اضطر نظرائهم في عفرين وفي بعض أحياء حلب كالأشرفية والشيخ مقصود والهلك , ومدينة نل رفعت إلى الإنسحاب منها وتسليمها إلى الجيش السوري عبر أقوى عملية تحرير تشهدها البلاد أنجزها المواطنون السوريون عبر وحدتهم الوطنية وبوعيهم وإدراكهم لحقائق التاريخ والواقع , وبتوجيه الرسائل إلى عملاء واشنطن في شرقي الفرات وإلى كل من حمل السلاح ضد الدولة السورية .
وتبقى الرسالة الأهم تلك التي تلقتها واشنطن , فالشعب السوري أقوى من عملائها , ولن تستمر مسرحيات الغدر و الدولار إلى الأبد , ولا بد للسوريون عربا ً وكردا ً واّشور وسريان وكل الشرفاء ممن أنجبتهم من رحمها, أن يوجهوا صفعتهم لوجه المتغطرس الأميركي وفي أية لحظة , وبات على واشنطن أن تستشعر نصف خسارتها بإعتمادها على عملاء فاشلين , فالشعب السوري ينظم صفوفه لمقاومة العدوان الأميركي وها هو ينتظر إشارة الرئيس الأسد كي يسطر التاريخ النصف الاّخر لهزيمتها وبخروجها من الأرض السورية ذليلة ً وعلى مرأى ومسمع العالم.
أما عن مصير أردوغان ومستقبل العدوان على عفرين .. فتبدو العودة إلى أصدقائنا هيرودوت وتوكيديوس وابن خلدون ضروريةً لنأخذ من عِبَرهم فيما إذا كان “التاريخ يكرر نفسه ” أم لا ؟
لقد بات واضحا ً أن القرار السوري بدخول عفرين قد أربك تركيا حتى النخاع , وباتت تركيا تبحث عمّن يخرجها من هذا المستنقع , فالدخول إلى عفرين أصابها بمقتل وجعلها تشعر بالمرض ثانية ً , فسلطنة أردوغان على غرار أيام زمان , ترامت أطرافها وإبتعدت بأياديها إلى أبعد من حجمها , ولم تعد قادرة على دعم نفوذها وحماية مرتزقتها و إنكشارييها , بعد أن استغلها “شركائها” ونصبوا لها الفخاخ ووعدها بالحسناوات و بأراضي سوريا الملاح , ومن “سيفر” إلى “لوزان” يستمر حزنُ وغضبُ السلطان … فقد انتهت أيامها وسقطت هيبتها , وقدمت ما لديها وراحت عليها , فالأوروبيون لم يعد يحسبون لها الحساب , وأغلقوا في وجهها الأبواب , والناتو قد لا يحميها وربما تنقلب أنجرليك عليها , بركانٌ , إعصارُ أو إنقلاب قد يطيح بالسلطان ..
لقد تعب أردوغان ويحق له أن يتمدد أرضا ً ليرتاح فالسلطنة مريضة والسلطان يحتضر , وما أحلى أن يسجله التاريخ بطلا ً مات على أسوار عفرين بعدما قاتل الأكراد دفاعا ًعن “أمن بلاده القومي”, واستحق مقعده إلى جوار صديقه أتاتورك أوغريمه مندريس لا فرق , فلا طال بلح روسيا ولا عنب أميركا وتساوى معهم في الهزيمة..!