«باب الحارة» الذي مزج السياسة بغيرها

1

سليمان جودة

سليمان جودة صحافي وكاتب مصري

الذين تابعوا مسلسل «باب الحارة» في رمضان، لا بد أنهم عادوا بخيالهم وهُم يتابعونه إلى سوريا التي عشنا نعرفها، والتي نترقب عودتها هذه الأيام من جديد.
وربما يكون باب العودة هو القمة العربية التي ستنعقد في الرياض 19 الشهر المقبل، لأن حكومة خادم الحرمين الشريفين بادرت وقالت ما يفيد بأن دعوة لحضور القمة سوف تذهب إلى دمشق، وأن الحكومة السورية ستعود لتملأ مقعدها الشاغر في الجامعة من سنين.
ومن دواعي الفأل الحسن أن يتزامن عرض المسلسل في شهر الصيام، مع أجواء العودة السورية التي نراها في كثير مما نتابعه من أخبار، ومن اتصالات، ومن لقاءات، ومن تحضيرات، فالقمة يراد لها أن تكون ناجحة، وأن تتمكن من علاج الجرح السوري الذي طال نزيفه وطالت آلامه.
وكان عرض «باب الحارة» قد بدأ قبل سنوات، ثم تتالت أجزاؤه من رمضان إلى رمضان، وفي كل مرة كان جمهوره ينتظره، وكان مشاهدوه يجدون فيه من المتعة ما لا يقل عن الفائدة، وكانت جماهيريته تزداد مع كل جزء جديد، وكانت اللهجة السورية المحببة إلى نفس كل عربي تميزه في كل الأجزاء.
وعند عرضه للمرة الأولى كان متابعوه ينتشرون في كل مكان، وكانت الشوارع في عواصم العرب تكاد تخلو من المارة عند بدء الحلقة في كل مساء، وقيل ذات يوم إن المتقاتلين في قطاع غزة كانوا يتوقفون عن القتال ليشاهدوه، وكان هذا دليلاً على المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الدراما العربية من حيث تأثيرها في نفوس الناس، ومن حيث قدرتها على أن تشدهم بمحتواها إلى الشاشات.
وقد سمعت مرة من مسؤول مصري كبير، أنه كان في زيارة إلى الجزائر للقاء مع الرئيس هواري بومدين، فسمع منه عن سطوة الدراما المصرية هناك ما لم يكن يصدقه وقتها، لولا أن ما سمعه كان حقيقة من لحم ودم، ولولا أن الذي رواها له كان هو رئيس الدولة شخصياً.
قال الرئيس بومدين للمسؤول المصري إن لصاً إذا أراد السطو على أي بيت جزائري، فلن يجد أفضل من وقت عرض المسلسل المصري، لأن أفراد البيت يتحلقون حول التلفزيون أثناء الحلقة، ولا يكادون ينتبهون إلى شيء حولهم، إلا إلى أحداث المسلسل وتفاصيله، وإلا إلى وقائعه وتطورها، وإلا إلى أبطاله الذين كانوا ينسجون علاقة من الألفة والصداقة مع المشاهدين.
هكذا سمع المسؤول المصري من رئيس الجزائر وقتها، وهكذا روى لي ما سمعه بنفسه، وهكذا بدت الدراما واصلة إلى الوجدان العام، وهكذا كانت وتكون الدراما التي يتعلق بها المشاهد ويتابعها، حين يرى أنها تمس شيئا ما في داخله.
وفي «باب الحارة» كانت الأحداث تتوزع بين حارتين هما حارة الضبع وحارة الصالحية، وكان البيت السوري بالنافورة تتوسط ساحته مما يربط بين كل الحلقات، ولا يتبدل من واحدة إلى أخرى، وكانت الأحداث اجتماعية خالصة في جانب منها، وكانت وطنية سياسية في الجانب الآخر، وكان الزمن الذي تدور فيه هو زمن المحتل الفرنسي، وصولاً إلى يوم الاستقلال في السابع عشر من أبريل 1946.
ففي ذلك اليوم وقف الرئيس شكري القوتلي يزف نبأ الاستقلال إلى السوريين، ويبشر به أبناء وطنه، ويلفت نظرهم إلى أنهم رأوا هزيمة المحتل بأعينهم، ويدعوهم إلى أن ينتبهوا إلى أن ثمناً من دماء الشهداء قد جرى دفعه مقدماً، وأن عليهم أن يصونوا ما تحقق، وأن يحموا حريتهم، وأن يعوا درس اللحظة.
وكانت حركة المقاومة في مواجهة المحتل تتصاعد على طول الحلقات مع اقتراب يوم الاستقلال، وكانت تتوازى مع حركة الناس اليومية في الحارتين، وفي صراع الأشرار منهم مع الأخيار.
وقد بدا ختام المسلسل في آخر حلقاته، وكأنه يشير إلى ما يجري وسوف يجري على المستوى السياسي في البلد، أو كأنه نبوءة بما سوف يكون، لأن تصوير «باب الحارة»، وتجسيد أحداثه كان سابقاً على ما طرأ فيما بين سوريا وبين محيطها العربي.
ففي خلال الشهرين الأخيرين تتابع إيقاع الحركة في هذا المحيط، كما لم يحدث طوال السنوات العشر السابقة على الشهرين، وكانت البداية عندما زار الرئيس بشار الأسد أبوظبي، ثم ذهب وزير خارجيته فيصل المقداد في زيارة إلى القاهرة، وكانت الزيارة هي الأولى من نوعها بين البلدين من عشر سنوات، وعند عودته إلى بلاده قيل إن قمة بين الرئيسين المصري والسوري يجري الإعداد لها، وإنها ستنعقد في وقت قريب.
ومن بعدها زار المقداد الرياض، وكانت زيارته هي الأولى كذلك من نوعها من أيام ما يسمى بالربيع العربي، ثم طار الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية السعودي، في زيارة إلى العاصمة السورية، والتقى هناك الرئيس بشار الأسد.
وسارع الوزير المقداد يزور الجزائر، التي استضافت القمة العربية الأخيرة، والتي ترأس مجلس الجامعة حالياً بالتالي، ومن هناك ذهب المقداد إلى تونس حيث التقى الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي كلف وزير خارجيته إعادة فتح السفارة التونسية في دمشق.
وهكذا بدت سوريا وهي تخرج من عزلة عربية طالت واستطالت بأكثر مما هو لازم، وبدت الأجواء جاهزة ومهيأة ومغرية بالعودة، وكانت في عودتها المتسارعة وكأنها رغبة في تعويض الكثير الذي فات، وكان الكثير الذي فات قد نال من السوريين في أرضهم وأجهدهم، بقدر ما نال من الجسد العربي في مجمله وأجهده.
وكانت سنوات الغياب مخصومة من كل حساب عربي، لأن حضور غير العرب في سوريا خلال تلك السنوات، كان على حساب العرب وفي حساب غيرهم، ومن السهل أن ترى ذلك وتلحظه بالعين المجردة، إذا ما ألقيت نظرة على الخريطة السورية، وعلى مواقع الحضور فيها لغير العرب.
ولا غرابة في أن نرى ذلك ونلحظه، ولا في أن يقع قبل أن نراه ونلحظه، لأن نظرية ملء الفراغ سرعان ما تفرض نفسها في كل حالة من حالات الغياب.
وفي «باب الحارة» لاحظ الذين تابعوه أن رجالاً من أهل حارة الضبع، كانوا عند بدء أحداث الحلقات قد جاءوا يعيشون في حارة الصالحية، وكان الواضح من حلقة إلى حلقة أن هذا الوضع بالنسبة لهم هو مؤقت، وأنه سرعان ما سوف يتغير، وأنهم لا بد عائدون إلى حارتهم، لأنها مكانهم فضلاً عن أنها بيتهم، ولا يعيش الإنسان بعيداً عن بيته إلا على سبيل الاستثناء.
وحين اكتملت دورة الحياة الدرامية في المسلسل، وحين جاءت حلقاته إلى ختامها، وقف أهل الصالحية يودعون العائدين إلى حارة الضبع، ووقف العائدون يشكرون الذين استضافوهم لأيام وشهور، وكانت عودتهم هي بمثابة عودة الشيء إلى أصله أو إلى مكانه.
وبدا الواقع بين سوريا ومحيطها العربي، وكأنه يتجاوب مع الخيال بين حارة الصالحية ومحيطها في الحارة الثانية، ولم يصافح الواقع خيالاً كما صافحه على الشاشة أمامنا وفي الواقع من حولنا، وكانت مصافحة من نوع فريد اختلط فيها الواقع مع الخيال.
على الحد الفاصل بين حارة الضبع وحارة الصالحية، تابعنا المصافحة بين أهل الحارتين في «باب الحارة»، فكانت المصافحة وكأنها بشارة بما سوف يكون على الحد الفاصل بين سوريا وهي تعود اليوم، وبينها وهي في غربتها الطويلة بالأمس.

التعليقات معطلة.