مقالات

باختصار: الحروب التي تنتهي ولا تنتهي!

 
 
زهير ماجد
 
أصعب وأبشع أنواع الحروب هي حروب الداخل .. فهي تنتهي عسكريا لكنها تظل نفسيا واجتماعيا إلى أجل غير مسمى وربما إلى أجيال. ففي لبنان حتى الآن ما زالت الحرب في عقول من خاضوها، لكنها أيضا في صميم حياة واهتمامات أجيال لم تخضها ولم تعشها، بل هؤلاء أشد شراسة وأكثر تمردا .. بلحظة واحدة من التوتر المفاجئ مثلا وفي منطقة معينة، يتحول لبنان إلى سؤال المصير الأوسع الذي ينتاب كل اللبنانيين، من هنا نفهم أن الحرب ما زالت عالقة في عقول الشباب وفي أمنياتهم.
وغدا تنتهي حروب سوريا والعراق وليبيا واليمن وغيره، لكن من يقنعنا أنها انتهت فعليا، وأنها لم تترك وراءها آثارا كارثية في نفوس الناس وفي حالتهم الاجتماعية وحتى الاقتصادية .. هذا النوع من الحروب يرتب حالة دائمة من الإحساس بالتأهب لامتشاق السلاح.
كادت لحظات مجنونة في منطقة لبنانية قبل يومين أن تطغى على أمل باستقرار، وهو المفهوم الهش الذي لم يزل قائما منذ انتهت الحرب بمظاهرها العسكرية، وظلت قائمة بنموها تحت جلود الشباب الجديد الذي سمع فقط عنها، لكنه عاش معناها فتأثر وأثرت به وأخذته إلى السلاح .. فهو لا يملك بالتالي أي قرار بالحوار لأنه لا يتقنه. ففي هذا البلد الصغير المساحة، ما زال الجيل الذي خاض الحروب السابقة حيا يرزق، نقل معه كل أورام مراحله تلك إلى الواقع الحالي وغزا بفكره الميليشياوي كل تفاصيل الحكم والسلطة والدولة، وفي أصعبها مثلا القضاء الذي يجب أن يكون منزها عن أي تأثير سياسي ميليشياوي.
توقفت الحرب اللبنانية باتفاق في العام 1990 لكنها استمرت كما قلنا حالة مسيطرة اجتماعية ونفسية وشبابية .. وبدل أن تتكون ردود فعل ضد الحرب، ارتفعت وتيرة الاهتمام بالتسلح وباقتناء السلاح، هنالك مئات آلاف الأنواع منه موجودة في البيوت، وهذا بحد ذاته عامل مساعد على الإحساس بامتلاك ما يفجر في المرء طاقة العدوان ساعة يشاء .. وليس من رادع رغم أن الأجيال اللبنانية الحالية تذهب إلى المدارس والجامعات إلا أنها شربت من نبع الطائفية والمذهبية لتصبح أسيرة لها.
ليس لبنان وحده من يدفع الثمن لمسيرة ملغومة، بل كما قلنا هنالك الآن أقطار عربية لن تنتهي فيها سمة الحرب حتى لو توقفت عسكرتها نهائيا .. سيظل هناك حضور لها متوارث بين أجيال لن تعدم التعبير عنها .. فما صنعته الحرب في النفوس كبير وخطير .. شحنتها لا تنتهي عند الجيل الذي مارسها، بل ستستمر في آخرين .. إنه الكلام والأحاديث والأخبار التي ستسمعها الأجيال الشابة عندما تتمكن من تفهم ما جرى لأهلها وللقطر.
يوم كانت نيتي دراسة الطب ذهبت إلى إسبانيا وتحديدا إلى مدينة سارجوسا في الشمال، وهناك قال لي طالب طب لبناني سبقني بسنين إنه ليس عليك أن تسأل إسبانيا عن الحرب الأهلية، لا يريد الإسبان العودة بالذاكرة إلى حربهم الأهلية التي قضت على ملايين منهم.
هذا النوع من الحروب إذن هو الأبشع .. الحرب بين دولتين لا بد أن تنتهي لكنها لا تترك آثارا عميقة في النفوس سوى زيادة في الإحساس العدائي للدولة العدوة .. بل إنها تعلي من شأن مشاركة جميع أبناء الوطن مما يعني نهوضا شاملا للجميع في مواجهة الأخطار الخارجية .. كادت الحرب الأهلية أن لا تنتهي في روسيا إبان حكم ستالين لولا أن هاجمها هتلر فتحول الوضع الداخلي الروسي برمته ضد الغازي النازي ورفع شعار وحيد يومها هو روسيا الأم وتحتها توحد جميع الروس.