لن تجلس القوات المسلحة العراقية لكي ترتاح بعد انتهاء معاركها مع “داعش”، بل عليها أن تظل مستنفرة لتصون مكاسبها الكبرى، وهي مكاسب يحق للعراقيين أن يفخروا بتحقيقها مهما كانت كلفتها العمرانية والبشرية .. العمران يعاد إلى ما كان عليه، المشكلة في البشر الذين يرحلون ولا تعويض عنهم.
لم يذكر أحد كم هم شهداء العراق في حربهم مع التنظيم الإرهابي .. قيل الكثير بعد الاحتلال الأميركي، حتى أنها كانت أرقاما فلكية كما يقال، ومنها أن هنالك مليون شهيد. الآن ليس محل تعداد من رحل ومن بقي، حين يطلب الوطن على عجل تحريره من دنس إرهابي أو احتلالي، على شبابه أن لا يتقاعس وأن يلبي النداء على الفور، وهكذا كان.
من حق العراق أن يفخر بما أنجزته قواته المسلحة بكل أشكالها، وهي تشكل وحدة موحدة في عملية الصراع الوجودي ضد الإرهاب. ذات يوم زرت العراق أثناء حربه مع إيران، فرأيت صور قتلاه في كل مكان دخلته. تمضي السنون الطويلة والعراقيون لا يبخلون بتقديم أرواحهم، بل لديهم قدرة هائلة على ممارسة الصبر حتى بات مهنتهم الأثبت في تاريخهم.
ومن قال إن السوريين أيضا لم يعلنوا بعد إحصاءاتهم البشرية والعمرانية .. الدولة تعرف والقيادة أيضا, عندما تكون المعركة في أوجها، لا قيمة لأي كلام إحصائي، من يطلع على آراء القيادة السورية وعلى مثقفيها القريبين منها، يعرف أن الحرب ما زالت طويلة، وأن السلام الناجز بعيد حتى الآن، وأن أمام سوريا على ما يبدو حروب تحرير لأرضها ضد قوى أخرى غير “داعش” ومشتقاتها.. التركي محتل، والأميركي أيضا، إضافة إلى قوى لا تريد أن تسمع صوت العقل.
هنالك جوع عراقي وسوري لحرية أراضيهم، مقاييسهم الآن لا حساب فيها للتدمير والشهداء، الحساب الوحيد أن يخرج الوطن سالما معافى من حرب كبرى شنت عليه، والكلمة الوحيدة اليوم هي للميدان، فيه تربت أجيال وقدمت عروضا سخية من القتال الواعي المدرب والخبير .. القوات السورية والعراقية اليوم هي غيرها بالأمس، وما قبله، ستخرج من حروبها الظافرة جيوشا يشار إليها بالقدرة القتالية المميزة. بل هنالك من إلى جانبه كحزب الله، الذي صار هو الآخر من الجيوش المفتخرة في هذا العالم.
هنالك بناء إنسان جديد طالع من معارك الوطن المصيرية، بل هنالك نمو تلقائي لإحساس في داخل كل عراقي وسوري، أنه يعيد ترتيب بلاده، من الفكرة الصغيرة ومن الشعار ومن أبسط الكلمات إلى أعقدها .. لقد أجاب العراقيون والسوريون على أسئلة المصير الوطني بهذا الدفق مع المعنويات العالية التي ظهرت في الميدان وصار مثلا. فلا مقاتل دون شعور الانتماء والهوية، ودون المفهوم العقائدي الذي سواء تعلمه مباشرة أو ناله من زمن مضى.
من هنا نفهم هلع البعض من الولادة المميزة لجيشين عربيين هما السوري والعراقي تعانقا عند الحدود المصطنعة وهمس كل منهما للآخر بأنه منه وإليه. مشهد اللقاء هذا دوى في رأس دول عديدة لم تهضمه، بل لم تكن لتقبل به بهذه الصورة، وهي خططت لمنعه لكنها لم تستطع وهي تسترجع يوم جاء الجيش العراقي ليخوض إلى جانب الجيش السوري في حرب أكتوبر 1973، بل ما زالت مدينة جنين في فلسطين تضم مقبرة شهداء الجيش العراقي الذين جاؤوا للقتال ضد الصهاينة يوم النكبة الكبرى عام 1948.
باختصار : الولادة الحقيقية
زهير ماجد
التعليقات معطلة.