الفنان الفرنسي تولوز لوتريك هو أحد أشهر فناني مرحلة ما بعد الانطباعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تأت شهرته من أعماله المميزة بأسلوبها ومواضيعها المتمردة على القيم الاجتماعية السائدة في زمانه فحسب، بل أيضاً من سيرة حياته الشخصية ووفاته المبكرة وهو في السادسة والثلاثين بسبب إصابته منذ الطفولة بمرض مزمن.
لوحاته الموزعة في أهم المتاحف الفرنسية والعالمية لم تفقد يوماً بريقها وسحرها الخاص، لكن بموازاة اللوحات الزيتيه المعروفة، كان لتولوز لوتريك إبداعاته التي لا تحصى في مجال إنجاز الملصقات الدعائية وأغلفة المجلات. وهذا الجانب يظل غير معروف نسبياً من الجمهور الواسع. ويقام حالياً في «مؤسسة جيانادا السويسرية للفنون» (Fondation Gianadda) معرض هو الأول من نوعه في أوروبا لأنه يضم مجموعة كبيرة من ملصقاته ومحفوراته ويبين إلى أي مدى كان مجدداً في هذا الفن.
عنوان المعرض «تولوز لوتريك في الزمن الجميل»، والزمن الجميل هو تعبير شائع اعتمده المؤرخون الفرنسيون للإشارة إلى مرحلة تميزت بالعديد من المنجزات الباهرة على الصُعُد العلمية والتقنية والاجتماعية وامتدت من 1879 حتى 1914.
تولوز لوتريك الذي توفي عام 1901 عايش في حياته القصيرة تحولات الحياة الاجتماعية الباريسية التي كان من ملامحها ظاهرة انتشار المقاهي والملاهي حيث تقدم حفلات الرقص والغناء. وهو ترك بيئته الارستقراطية حيث ولد ونشأ واختار منذ عام 1884 الإقامة في حي مونمارتر الباريسي الذي تميز بأجوائه الريفية والبوهيمية بعيداً عن وسط العاصمة. وكان قد استقر في مونمارتر عدد من الفنانين المجددين، كما أن الحي كان يضم عدداً من المسارح والحانات ومن أشهرها مسرح « المولان روج » أو «الطاحونة الحمراء» الذي ما زال يعمل إلى اليوم. ويحضر في المعرض الملصق الذي أعده تولوز لوتريك لهذا المسرح عام 1891 وقد اختارته إدارة المسرح دون غيره من الملصقات بسبب جرأته في توزيع الألوان والشخصيات وطابعه المجدد. وطبع من هذا الملصق ثلاثة آلاف نسخة كما أنه عرض في صالونات ومعارض فنية بسبب قيمته الجمالية.
في هذا الملصق كما في ملصقات أخرى نشاهدها في المعرض، تطالعنا الشخصيات المعروفة في عالم الغناء والتمثيل في تلك المرحلة كالمغنية والممثلة جين أفريل والمغني أرستيد برويان. والأخير كان قد طلب من تولوز لوتريك إنجاز ملصق له عن حفلاته في «مسرح السفراء» في حي الشانزيليزيه. وانتشر الملصق على جدران باريس وتميز بجرأته الكبيرة في رسم المغني بأسلوب حديث وخطوط متينة.
ولم ينحصر نجاح تولوز لوتريك في إنجاز ملصقات المسارح بل تعداه إلى إنجاز ملصقات المجلات الأدبية وأغلفتها، ومنها المجلة الأدبية المعروفة وقتها «المجلة البيضاء» وكانت رائدة في زمانها واستقطبت الكتّاب والفنانين الرواد وعكست السجالات الأدبية والاجتماعية في تلك المرحلة.
باختصار، يستعيد المعرض أجواء زمن سبق ويلات الحرب العالمية الأولى وأضحت فيه باريس عاصمة الأنوار بعدما نفّذ البارون جورج أوجين أوسمان، ما بين عام 1853 وعام 1870، مشاريع عمرانية هائلة بدّلت تماما معالم المدينة وجعلتها مدينة الجادات الواسعة والحدائق العامة والأبنية الحجرية الفخمة التي منحت العاصمة طابعها الفريد إلى يومنا هذا. أما حي مونمارتر الذي حافظ على طابعه القديم، فخلّدته أيضاً الأعمال التي استوحاها تولوز لوتريك من أجوائه ومن شخصياته، وهي أجواء مليئة بالحياة والحركة، ولذلك فإنّ رسوم لوتريك وملصقاته جمعت بين البعدين الفني والتوثيقي، ولها قيمة خاصة في المشهد التشكيلي الذي عرفته المدينة في أحد عصورها الذهبية المتتالية، بل أكثر من ذلك، أصبحت تلك الأعمال الفنية، على المستوى العالمي، مرادفاً لمدينة باريس في تلك الحقبة ولمناخاتها كما نقلتها ريشة لوتريك الساحرة.