بقلم : هادي حسين
وإنْ كانت الكتابة عن الحركات الإسلامية موضة لا تستهويني في هذه الأيام، لكن لا مناصّ للمهتمّ والباحث في الشؤون الباكستانية من متابعة ودراسة صيرورة الجماعات والتنظيمات الإسلامية في باكستان، لا سيما مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، وسواد حالة الترقب التي تسيطر على المشهد العام، فبضاعة التنبّؤ بالتحالفات وجديد البرامج السياسية لمختلف الأحزاب السياسية هي الرائجة في سوق الإعلام السياسي، وما أكثر البائعين لهذه البضاعة على مختلف شاشات التلفزة وأثير الإذاعات وصفحات الجرائد مع ازدياد الطلب الذي يحكي سأم الشعب الباكستاني بمختلف طبقاته من الوضع الاقتصادي المتردّي وستاتيكو لعبة تبادل الأدوار بين الجيش والبيروقراطية الحاكمة والجماعات الدينية.
غير أنّ اللافت ويستحق الوقوف عنده بتمعّن هو إجماع معظم المحللين والخبراء السياسيين في باكستان على أنّ التيارات الإسلامية في البلاد تعيش أزمة، على الرغم من النظرة القاصرة لبعض الباحثين العرب والغربيين الذين ما زالوا يعتقدون أنّ التيار المهيمن على الساحة الاجتماعية في باكستان هو التيار الإسلامي، مستندين في ذلك إلى رصد مظاهر محدّدة للتديّن مثل ازياد عدد المساجد والمدارس الدينية، زيادة نسب التديّن الطقوسي لدى الشباب، الاستعراضات الجماهيرية للإسلاميين وغيرها. لكن واقع الحال مغاير تماماً لهذه الصورة النمطية للمتطفلين على الشأن الباكستاني من الخارج. أما الخلاف الشديد حول توصيف هذه الأزمة والسرّ الكامن ورائها، لا يغيّر من حقيقة وجودها وأنها قائمة بشيء.
وكغيرها من الأزمات فقد أنجبت هذه الأزمة مولود أزمة، تمثل بالاختلاف العميق في قراءة وفهم المشكلة القائمة، ما أحدث تنوّعاً شديداً في المواقف المناسبة للظفر بالحلّ والبديل الذي يُخرج الحركات الإسلامية من واقعها البائس. فمثلاً تجد أنّ بعض الحركات والشخصيات الإسلاميّة ترى أنّ ظروف المسلمين في باكستان تحاكي الظروف المكّية، وهي حالة غير مؤهّلة للطرح المدنيّ والحقوقيّ والسياسيّ، وبالتالي المطلوب السعي لبناء الكتلة الصالحة في المجتمع وتبليغ الإسلام ومبادئه إلى الناس في ضوء منهجيتهم في العمل الدعويّ والتبليغيّ. وفي المقابل تجد رؤى ونظريات معاكسة جملةً وتفصيلاً للنظرة المتقدّمة.
أحد الأصدقاء في بيشاور عاصمة الجماعة الإسلامية في باكستان يعزو الأزمة التي تعاني منها الحركات الإسلامية في بلادي إلى فقدانها للرافعات السوسيوثقافية التي يجدر بها دفع الحركات الإسلامية إلى التمدّد الأفقي والعمودي داخل المجتمع.
من جهتي أعتقد إنه وإنْ كان ذلك صحيحاً، إلا أنّ المسألة أكثر عمقاً وولوغاً في الشخصية الفكرية والتاريخية للحركات الإسلامية الباكستانية المططاحنة في ما بينها للفوز بدور الكومبارس السياسي.
بتعبيرٍ آخر، أجد نفسي مُقتنعاً بأنّ تطوير العمل الفقهيّ والكلاميّ الإسلاميّ مقدّمة لا مناصّ منها للتطوّر السياسيّ وترشيد السلطة والحكم في باكستان. فاختزال المشكلة السياسيّة في فريق الحكم أو بنفوذ المؤسسة العسكرية، فهو أقرب إلى احتماء من لا يجد تفسيراً للأشياء بمقولة الغيبيات والأسرار.
لا أقصد بذلك العودة إلى نقطة الصفر أو دعوة لنقض التراث والإنقلاب عليه، وإنْ كان نقد التراث ضرورة ملحة، لا سيما عندما أنظر إلى الثقافة الإسلاميّة في شبه القارة الهندية الهند وباكستان وبنغلادش أجد أنّ هناك تخلفاً مرعباً في فهم الإسلام، وكأنّ الكاتب والمفكر الفرنسي أوليفيه روا صاحب كتاب «الجهل المقدس» استلهم فكرة مؤلفه من القارة النووية!!
أردت لفت الانتباه إلى أنّه ينبغي للجماعات والحركات الإسلامية أن تعيد استنطاق نفسها وتقوم بعملية مراجعة صادقة لحساباتها وتقوم بنقد ذاتيّ جريء، فهذا ألف باء المشروع النهضويّ والتجديديّ.
إنْ لم يكن كذلك، فبماذا نفسّر ثورة الإمام الخميني، ونحن في أيام ثورته المباركة؟!
في نفس السياق، لا يسعني إلا أن أذكر رائداً من رواد الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي وفي لبنان السيد المبدع بفرادة المنهج، والانفتاح على الآخر، الفقيه السيد محمد حسين فضل الله، الذي تحسّس بفطنته منذ بداية عمله الإسلامي أنّ الحركة الإسلامية تعاني من أزمة خطاب، وغياب حركة النقد الذاتي في نطاق القاعدة والقيادة، أضف إلى ذلك إلماحه غير مرة إلى سيطرة مرض التعصّب الأعمى على الكثير من النخب والتيارات الإسلامية التي تدّعي القبض على ناصية الحقّ المقدّس، إما بالأصالة أو بالوكالة. والكلام هو الكلام في الجماعات الإسلامية في باكستان.
آخيراً، ما أجمل ما قاله مظفر النواب، الذي ظفر بأعمق التعابير، أختم به مقالتي هذه.
من هذه الأرض ابتدأت دعوة.
ابتدأ بها اسماعيل ثم تلقفها القرامطة.
وأنا قرمطي..
أولئك قالوا: مشاعة الأرض، ومشاعة السلاح
ولكن لم يقولوا مشاعة الإنسان…
وأنا أيضاً مع مشاعة الأرض، ومشاعة السلاح…
ولكنني لست مع مشاعة الإنسان.