قورنت 2023 ببضع سنوات رسّخت نفسها في ذاكرة القرن العشرين. الهجوم الذي شنّته “حماس” على إسرائيل تحت عنوان “طوفان الأقصى” أعاد إلى الأذهان الحرب التي شنّتها عليها مصر وسوريا سنة 1973. نقاط التشابه كانت جليّة؛ فصَلَ بين الهجومين 50 عاماً وتزامنا مع عيد يهوديّ كما فاجآ المؤسّسات السياسيّة والأمنيّة الإسرائيليّة.
بالنسبة إلى الإسرائيليّين، كانت 2023 تشبه أيضاً سنة 2001 الأميركيّة، حين تعرّضت الولايات المتّحدة لهجمات 11 أيلول (سبتمبر) التي أطلقت العنان لحربين أميركيّتين في أفغانستان والعراق. ما إذا كانت إسرائيل ستتبع المسار الأميركيّ نفسه بعد 11 أيلول يبقى سؤالاً مفتوحاً على كلّ الاحتمالات، خصوصاً بعد الاستهداف الأخير للقياديّ في “حماس” صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبيّة.
لكن بالرغم من أنّ سنتي 1973 و2001 مناسبتان للمقارنات التاريخيّة، يبقى أنّهما تعبّران عن ساحة محدّدة على المستوى الدوليّ. فالعالم في 2023 واستتباعاً في 2024 ليس عبارة فقط عن حرب بين إسرائيل و”حماس” مع أهمّيّتها وتداعياتها السياسيّة والإنسانيّة. هناك أيضاً الحرب بين روسيا وأوكرانيا والتوتّر في مضيق تايوان والبحر الأحمر وغيرها من الساحات، إضافة إلى الغموض السياسيّ والانتخابيّ في واشنطن.
بالنسبة إلى أستاذ التاريخ الدوليّ في كلّيّة لندن للاقتصاد والعلوم السياسيّة ستيف كايسي، تشبه الصورة الحاليّة للعالم الصورة التي سادت سنة 1947. في تلك السنة، كانت موسكو السوفياتيّة تظهر نزعة توسّعيّة والنزاع يستعر بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين والرئيس الديموقراطيّ هاري ترومان يعاني تراجعاً في شعبيّته. وكانت المعارضة الجمهوريّة تؤيّد خفض التدخّل الدوليّ مدعومة بمخاوف من التضخّم.
في السنة التالية، تابع كايسي، احتاج ترومان لدعم الجمهوريّين في الكونغرس من أجل خطّة مارشال لإعادة إعمار أوروبا وساعده في ذلك تدخّل الاتّحاد السوفياتيّ في تشيكوسلوفاكيا. وقرّر ترومان الاعتراف بإسرائيل، بالرغم من المعارضة الشديدة للكونغرس وبعض سياسيّي إدارته؛ فهو أراد إعطاء اليهود وطناً بعد الهولوكوست كما طمع بأصواتهم في الولايات المتأرجحة. وقبِل الجمهوريّون لاحقاً بدعم الرئيس ما إن ألقى خطاباً “مرعباً للغاية” عن المخاطر الخارجيّة المحدقة بواشنطن. في النهاية، تمكّن الرئيس من الفوز بالانتخابات ومن بناء توافق تشريعيّ كبير في السياسة الخارجيّة سيستمرّ لعقود أخرى.
هل يكرّر بايدن سيناريو ترومان؟
يحتاج بايدن إلى الكثير من العمل، والحظّ ربّما، ليتكرّر ذلك السيناريو. الفرق الأساسيّ بين 1947 و2024 هو أنّ التصوّرات الأميركيّة تجاه دور واشنطن في الخارج مختلفة إلى حدّ كبير. حينها، كانت الولايات المتحدة خارجة من حرب عالميّة خاضتها بنجاح بعد فترة من الانعزاليّة انتهت رسمياً مع هجوم بيرل هاربر. اليوم، تبدو الولايات المتحدة في طور العودة إلى الحقبة الانعزاليّة بعد حربي العراق وأفغانستان. إنّ الأصوات الأكثر صخباً في الحزب الجمهوريّ ترى أنّ الحربين انتهتا بإخفاق كبير وإهدار أموال أمكن صرفها في الداخل الأميركيّ. علاوة على ذلك، يرى هؤلاء المحافظون أنّ الحروب الخارجيّة مجرّد صرف للانتباه عن الحروب الثقافيّة الداخليّة التي يجب خوضها ضدّ اليسار “الهويّاتيّ”. وتحضُر إشكاليّات أكثر تعقيداً.
حتى إذا أراد الجمهوريّون التعاون مع الديموقراطيّين، يحول فصيل جمهوريّ أكثر تشدّداً دون التوصّل إلى هذا التعاون. وقع رئيس مجلس النوّاب السابق كفين مكارثي ضحيّة هذا الفصيل فخسر منصبه بعد طرح الثقة به من هؤلاء النوّاب. وبدلاً من أن يقوم الديموقراطيّون بدعمه عمدوا إلى التصويت على إقالته. ويبدو موقع الرئيس الجديد مايك جونسون غير محصّن تجاه الفصيل الجمهوريّ المتشدّد. وسط كلّ هذا التشابك، تتناقص احتمالات بناء بايدن لأيّ توافق عام في الكونغرس تجاه السياسة الخارجيّة سنة 2024 وربّما بعدها.
معضلة مع إسرائيل
كما كان الأمر سنة 1947، يتعرّض بايدن لضغط داخليّ من أجل وقف دعم إسرائيل. هذه المرّة لا يأتي الضغط الكبير من المشرّعين أو من إدارته بل من الشباب الديموقراطيّ الذي قد يحجم عن التصويت في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة. يحتاج بايدن إلى السير على حبل مشدود للغاية؛ هو لا يستطيع التراجع عن دعم إسرائيل من دون انتقاد جمهوريّ حادّ بتعريض “الحليف” للخطر كما لا يستطيع ترك إسرائيل تخوض حربها من دون جدول زمنيّ واضح ينهي التصعيد أقلّه قبل فصل الصيف، كي يتاح بعض الوقت لاستعادة أصوات ممتعضة. وبينما لا يقلق الديموقراطيّون من الصوت اليهوديّ الذي لطالما أيّدهم في الانتخابات بغالبيّة تفوق الثلثين منذ أواخر عشرينات القرن الماضي، يبقى الصوت العربيّ والمسلم مؤثّراً في ولاية ميشيغان المتأرجحة التي بالكاد كسبها بايدن سنة 2020. وعلى المستوى الأميركيّ الأعمّ، من بين كلّ خمسة أشخاص، يؤيّد ثلاثة تقريباً وقفاً لإطلاق النار.
وبالرغم من أنّ إسرائيل تعتقد وتتصرّف على قاعدة أنّه يمكنها الاستمرار في الحرب بصرف النظر عن السياسة في واشنطن، ليست تل أبيب متفلّتة من أيّ قيود. يقول شالوم ليبنر، مستشار سابق لعدد من رؤساء الحكومات الإسرائيليّة، إنّ بايدن قد يكون آخر رئيس أميركيّ متعاطف مع إسرائيل وهو “اتّجاه يجب أن يقلق” الإسرائيليّين. لا يملك الإسرائيليّون دولة أخرى يمكنهم المراهنة على دعمها كما كتب ليبنر مؤخّراً في “فورين أفيرز“، لكنّه أشار إلى أنّ نتنياهو لا يزال يتفاخر بأنّ على أيّ رئيس حكومة إسرائيليّة أن يتحمّل أيّ ضغط أميركيّ. إذاً، ما دامت لواشنطن رافعة حقيقيّة في تل أبيب عبارة عن قوّتها العسكريّة والدبلوماسيّة، بإمكان بايدن الاستفادة منها لممارسة الضغوط. لكنّ ذلك دونه صعوبات، أهمّها شخصيّة نتنياهو الزئبقيّة نفسها.
اختلافات أخرى مع سنة 1947
بعد انتصار الولايات المتحدة في الحرب العالميّة الثانية، كان الحلفاء حريصين على الاصطفاف خلف القيادة الأميركيّة. اليوم، يشكّك الحلفاء في فائدة الرهان على اصطفاف كهذا، أقلّه على المدى المتوسّط والبعيد. ليست المشكلة في احتمال عودة ترامب وحسب، بل في كون ترامب نفسه أحد أعراض مشكلة أميركيّة أكثر عمقاً. الآن، تعلو دعوات لتوسيع أوروبا إنفاقها الدفاعيّ لدعم أوكرانيا في الشرق، إلى جانب دعوات سابقة أطلقها الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون لتحقيق “الاستقلاليّة الاستراتيجيّة” في أوروبا. لا ينفي ذلك أنّ تحوّل الولايات المتحدة نحو الانعزاليّة قد يكون مجرّد تصوّر أكثر من كونه اتّجاهاً مستمراً.
من جهة، إنّ الفريق الجمهوريّ الرافض للمساعدات الأوكرانيّة أقلّ من الفريق المؤيّد لها لغاية اليوم. من جهة أخرى، يمكن لبايدن الإفراج عن المليارات الستّين المخصّصة لأوكرانيا عبر إصلاح سياسات الهجرة، وهو ما نصحه ليبيراليّون به. أبعد من الخلافات الثانويّة، وبحسب استطلاع حديث لـ”معهد رونالد ريغان” صدرت نتائجه أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، وافق 59 في المئة من الأميركيين على استمرار المساعدات العسكريّة إلى أوكرانيا وتايوان مقابل معارضة 30 و28 في المئة على التوالي. ولاحظ المعهد أنّه حين يتمّ تأطير السؤال بعقيدة ريغان التي تعد بدعم واشنطن للحلفاء إذا تعرضوا للهجوم، يرتفع التأييد إلى 67 و65 في المئة على التوالي.
علاوة على ذلك، يميل الأميركيّون عامةً إلى رفض ثنائيّة بايدن/ترامب في انتخابات 2024. يتراوح رقم الرافضين ما بين 55 و75 في المئة بحسب الاستطلاع. بهذا المعنى، ثمّة تفضيل أميركيّ واضح لعودة الأمور إلى طبيعتها بعيداً من الاستقطاب. وهذا يعني أنّ الكثير يمكن أن يتغيّر، إذا قرّر الجمهوريّون اختيار مرشّح آخر لحزبهم غير ترامب، بما في ذلك احتمال أن يعاود الديموقراطيّون اختيار مرشّح آخر للرئاسة وإن كان الاحتمالان ضعيفين لغاية اللحظة.
ترومان القرن الحادي والعشرين؟
إنّ المتغيّرات القادرة على دفع السياسة الخارجيّة للولايات المتّحدة باتّجاه أو بآخر غير متبلورة بعد. ما إذا كان بايدن قادراً على الانتصار بانتخابات 2024 كما فعل ترومان قبل 76 عاماً مثار تكهّن محض. نظرياً، لدى بايدن ما يدعوه للتفاؤل إذا نظر سريعاً إلى حملة ترومان المتعثّرة في بداياتها: فالأخير واجه انشقاقات من داخل حزبه، خصوصاً في الجنوب، حين بدأ يتحدّث عن إعطاء حقوق للأميركيّين من أصل أفريقيّ. وواجه أيضاً انتقادات من يسار الحزب الديموقراطيّ لأنّه كان “عدوانياً” و”مستفزاً” تجاه الاتّحاد السوفياتيّ. بالتالي، لم يكن الجمهوريّون مشكلته الوحيدة. لكن إذا كان ترومان قد نجح في بناء توافق عام بين مشرّعي الكونغرس للسنوات التالية، فسيحتاج توقّع نجاح مماثل لبايدن إلى مقدار كبير من التفاؤل وسط استمرار مفترض للتحزّب والانقسامات بين كلّ من الحزبين وداخلهما.
في ولايته الأولى، فشل بايدن في رأب الصدع بين الحزبين، ومن المستبعد أن ينجح بذلك في ولاية ثانية مع توقّع أن يثير ترامب الخاسر مجدّداً “نظريّة مؤامراتيّة” عن سبب فشله. حالياً، الصورة بعيدة من أن تكون واضحة أو بسيطة عن الاتّجاه الذي ستسلكه الولايات المتحدة داخلياً وخارجياً سنة 2024 وما بعد. في كثير من الأحيان، قد يكون الانتظار أفضل وسيلة للحصول على أجوبة مستقبليّة.