هادي جلو مرعي
في مرة، وكنت متحمسا ومنعزلا في عراق موبوء كالعادة ومحاصرا تسعينيات القرن الماضي نصحني أصدقاء أن أنظم قصيدة غنائية، ونظمت بالفعل ماتصورته شعرا يغنى، وكان المغني قد بلغ من الشهرة مبلغا جعله في المقدمة مع إن صوته يذكرني بمايصدر عن الجليد حين يذوب، فيتكسر، وقدم أصدقاء لي بعض القصائد التي صدم بها المغني وعلق : هذا منظوم على (بحر الخرط).. يشبه (بحر الخرط) بحرا آخر هو (الرجز) الذي يسمونه مطية الشعراء، حيث يذهب البعض منهم الى هذا البحر لسهولته، فوصفوه بالمطية سهلة الركوب والقياد.
الثقافة في البلاد العربية تحولت الى ثقافة الخرط، وصار كل من هب ودب شاعرا ومغنيا وكاتبا وناقدا يقيم إبداع غيره، وإختلت الموازين، وتحولت طرق الإبداع والتقييم الى محاولات بائسة لتبييض وجوه كالحة، وصفحات سوداء مثيرة للقرف، عدا عن السرقات والإقتباس المجحف لروايات وقصائد ودواوين شعرية أجنبية، وإعادة تصنيعها عربيا وتقديمها بوصفها منتجا محليا لاتشوبه الشائبة ولايعتريه خلل ولابلل.
في كل بلد عربي هناك مشاكل تأخذ شكلا مستقلا، وله خصوصية، وطابعا متفردا من الفشل والضياع والتضييع والتغييب والتسفيه للإبداع، وتناسي المبدعين، وتحويلهم الى ضحايا لاقيمة لهم، أو كمجموعة حشرات ديست بأقدام المارة دون أن يلتفتوا، أو ينتبهوا، أو يشعروا بشيء مما يفعلون.
عندما لايجد المبدع من يوليه أهمية، ويوفر له ضمانات الكرامة والإحترام والتقدير والرعاية، فإن الإحباط يرافقه الى النهاية إلا إذا وجد الفرصة، وتعلق بها، وإستثمرها بطريقة ما ليتغير حاله الى الأحسن، وتكون البيئة المحيطة بها عاملا مضافا يمكنه من تحقيق إبداعه وإنتشاره، وتأكيد تأثيره في الحياة والمجتمع، وينبه الناس لقيمته ودوره كصانع ومغير ومؤثر لايمكن تجاهله، لكن حلم المثقف العربي كأحلام العصافير.