أنور رجب
من المسلم به أن إنهاء الانقسام وإعادة اللحمة لشقي الوطن هما واحد من أهم الشروط والمقومات لا بل هما الطريق الأقصر والأجدى لمواجهة صفقة القرن وإفشال مشروع الضم باعتباره الخطوة المركزية في البدء بتنفيذ هذه الصفقة على أرض الواقع، وبالتأكيد كل من تناول هذا الموضوع من كتاب ومثقفين ومحللين وسياسيين وقيادات تنظيمية وحزبية وآخرين من هذه الزاوية هم على حق، ولكن السؤال الجوهري هنا، ماذا لو لم يتحقق ذلك؟ خاصة وأن جميع المحاولات والاتفاقيات بهذا الشأن لم تتمكن من أن تجد طريقها إلى التنفيذ، هل سنظل ندور حول أنفسنا في حلقة مفرغة بانتظار إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة؟ أم نجترح رؤى ومقاربات تتعامل مع الواقع كما هو دون الركون لأمنيات واجتهادات لا تتجاوز سقف التنظير والاستثمار الحزبي والتربص من قبل البعض بانتظار الانقضاض على المشروع الوطني في لحظة هم ينتظرونها على أحر من الجمر ويوظفون لها كل ما هو متاح حتى لو كان من فعل الشيطان والاحتلال، وفي هذا السياق ينبغي أن نشير إلى جملة من النقاط ذات العلاقة بهذه المسألة المحورية: أولاً: أن حركة حماس التي قامت بانقلابها على السلطة الوطنية عام 2007، وسيطرت على قطاع غزة وما زالت بالقوة المسلحة، تمتلك مشروعاً إخوانياً عابراً للحدود ومناهضا للمشروع الوطني، فهم يرون في فلسطين مجرد مسواك أسنان ضمن المشروع الإسلاموي العالمي حسب وصف القيادي في حماس محمود الزهار، وهو ما يجعل مشروعهم يخضع لأجندات خارجية وحسابات واستحقاقات غير فلسطينية فرضت وما زالت تفرض عليهم ضمن أمور كثيرة عدم الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، والتي قاتلت ودفعت ثمناً باهظاً من الدماء والشهداء لتثبيت هوية الشعب الفلسطيني والحفاظ على القرار الفلسطيني مستقلاً عن كل الأجندات والمحاور والمشاريع الإقليمية والدولية، وهذا الاعتراف من وجهة نظرنا بمثابة حجر الرحى لتأسيس قاعدة حقيقية ومتينة للمصالحة ولوأد الانقسام مرة وللأبد. ثانياً: أثبتت التجربة أن حركة حماس وفي إطار إصرارها على تثبيت مشروعها الموازي، لم تترك فرصة أو نافذة ترى فيها إمكانية لإضعاف القيادة الفلسطينية أو تقديم نفسها كبديل جاهز لمنظمة التحرير والسلطة الوطنية إلا واغتنمتها، ناهيك عن قيامها بالكثير من الإجراءات والاتصالات والتفاهمات التي تكرس الانفصال بين غزة وباقي الأراضي الفلسطينية. وفي نفس الوقت اعتمدت خطابا هجومياً قائماً على التشكيك بمواقف وقرارات القيادة الفلسطينية وتقديم اشتراطات تبدو وكأنها وطنية للتهرب من استحقاقات المصالحة على شاكلة التنصل من اتفاق أوسلو ووقف التنسيق الأمني، وإصلاح منظمة التحرير (وفق أهوائهم طبعاً) وإطلاق يد “المقاومة” في الضفة. وعندما توفرت الظروف الموضوعية والسياسية وأعلن الرئيس أبو مازن بوضوح لا لبس فيه التحلل من جميع الاتفاقيات الموقعة مع الإدارة الأميركية ودولة الاحتلال، لم تقدم حماس على اتخاذ أي خطوة من شأنها أن تشكل رافعة وطنية لمواجهة مشروع الضم، واستبدلت ذلك بما درجت عليه بالتشكيك في هذه القرارات ومحاولة تبهيتها. ثالثاً: أن العركة المحورية والمركزية الآن تدور رحاها في الضفة (مشروع الضم)، في الوقت الذي لا يشكل قطاع غزة في نظر الاحتلال الإسرائيلي سوى عبء تخلص منه ولا يرغب بالعودة إليه، ولا يهمه من يحكمه إذا ما التزم بقواعد وشروط اللعبة “الحفاظ على الأمن”، ومن هنا فإن قراءته لواقع القطاع وحاكميه منحته قدرة عالية على توظيف هذا الواقع بما يخدم مخططاته في تنفيذ صفقة القرن من خلال تحييد غزة والاستفراد بضم الضفة، وتصريحات نتنياهو بهذا الشأن ما زالت ماثلة بالأذهان ولم يعتليها الغبار بعد، والتي دافع فيها عن سماح إسرائيل بتحويل الأموال القطرية بصورة منتظمة إلى غزة بوصفها جزءا من استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى الإبقاء على الانقسام، مع تأكيده بأنه لن يسمح بعودة قطاع غزة للرئيس محمود عباس. وما هو حاصل أن حماس تدرك جيداً وتستثمر التوظيف الإسرائيلي للانقسام وتوظفه بما يخدم استراتيجيتها ومشروعها (الطرفين فاهمين على بعض). رابعاً: لدينا العديد من فصائل العمل الوطني عدا شرعيتها التاريخية ومواقفها الوطنية فإنها فقدت حضورها الميداني والجماهيري، وبالتالي فإن قدراتها على الفعل المؤثر شعبياً باتت ضعيفة، وأخرى وجدت في المعارضة ما يعفيها من تحمل المسؤولية في اللحظات المصيرية، ويكفيها إصدار البيانات والمواقف العنترية والملتبسة (موقف اللا موقف) بصيغها المكررة والمفعمة بالسفسطة والفذلكة، كيف لا وهي تعيش حالة من التيه السياسي والآيديولوجي بعد أن فقدت بوصلتها وهويتها بين الإسلاموية والوطنية. خامساً: إن هناك دولا إقليمية مثل إيران تسعى لامتلاك الورقة الفلسطينية بما يخدم سياستها الخارجية، وتدعو إلى إغراق الضفة بالسلاح كما هو الحال في قطاع غزة كماً ونوعاً بالاعتماد على ذراعيها حماس والجهاد، وكلنا عايشنا وما زلنا نعايش ما جلبه هذا السلاح (سلاح الإسلام السياسي) على القضية الفلسطينية (الانقلاب) وعلى أهلنا في قطاع غزة بالذات من كوارث ومصائب، وهناك دول تعمل كمقاول وسمسار لدى الإدارة الأميركية ودولة الاحتلال لإطالة أمد الانقسام وتكريس الفصل بين قطاع غزة وباقي الوطن عبر تبني وتسويق حماس ومشروعها، وأخرى تتبنى وتوفر الملاذ والدعم لشخصيات منحرفة وطنياً وتتعامل معها كوديعة لعل وعسى تأتي اللحظة المناسبة لتحريرها وزجها في صدارة المشهد. وكما أشرنا سالفاً فإن ميدان المعركة الرئيسي الآن هو الضفة، وهي معركة مصيرية تعتمد نتائجها على مقدار صمودنا وثباتنا وحفاظنا على جبهتنا الداخلية متماسكة، وبالمقابل سيعمد الاحتلال إلى استخدام كل أدواته ومنافذه إذا ما قرر المضي قدماً بتنفيذ مشروع الضم، ولن يجد وسيلة تمهد له الطريق وتسهل عليه مهمته أفضل من خلق الفوضى والفلتان، وعلى نفس المنوال سنجد أن عدة جهات على المستوى المحلي والإقليمي ستتقاطع مع الاحتلال في هذه المهمة، وكلَ له حساباته وأساليبه ومبرراته، أما الثوب الذي سيسترون فيه عوراتهم ونواياهم الخبيثة فلن يجدوا أكثر ملاءمة من ثوب “المقاومة المسلحة” كمقدمة لإشاعة الفلتان والفوضى، ومن ثم تمرير مشروع الضم، وتثبيت إمارة غزة اللقيطة. إن مواجهة مشروع الضم تستوجب أولاً أن ننظر لمسألة الانقسام بوصفها صيغة من صنيعة الاحتلال، وأن من يحكم قطاع غزة يتقاطع ويتناغم مع هذه الوصفة، وبالتالي لا يجب ان نعول أو ننتظر من حركة حماس أن تتخلى عن مشروعها بتخليها عن حكم القطاع وإنهاء الإنقسام أو بالحد الأدنى تحقيق مصالحة وطنية تقوم على إيجاد برنامج وطني لمواجهة صفقة القرن ومشروع الضم، بل إن ما ننتظره هو استثمار حماس وتوظيفها للمعركة الدائرة مع الاحتلال حول الضم بما يدعم ويعزز من سيطرتها على قطاع غزة وتثبيت مشروعها، وما مواقف قيادة حماس وتصريحاتها ضد منظمة التحرير وتشكيكها بقرارات القيادة الفلسطينية سوى إرهاصات لمواقف أكثر تقاطعاً مع الاحتلال. أما ثانيا فما يجب فعله هو الحفاظ على أسلوب المقاومة الشعبية السلمية وعدم السماح مطلقاً بعسكرة الفعاليات المراد منها مواجهة مشروع الضم، والحفاظ على استقرار الجبهة الداخلية وحمايتها من الفوضى، وقطع الطريق على كل الحالمين والواهمين بإسقاط السلطة الوطنية وتدميرها، وبالتالي إجبار الاحتلال على الصراخ قبلنا في معركة عض الأصابع التي ستبلغ ذروتها في الفترة القادمة.