برافرمان تضرب بسيف “المقاومة” البيئيّة!

1

عمّار الجندي

عمّار الجندي

الناشطة البيئية ترمي لوحة عباد الشمس بصلصة البندورة

“أيهما أكبر قيمة، الفن أم الحياة؟” صرخت الشابة بعدما رشقت هي وزميلتها رائعة فان غوخ “عباد الشمس” بصلصة البندورة. ومن دون أن تعبأ برعب رواد دار العرض الوطنية في لندن، تابعت “خطابها” متسائلة: “هل أنتم قلقون أكثر بشأن حماية لوحة، أم بحماية كوكبنا وأهله؟”، وكأن حماية الكوكب المنكوب تبدأ بتخريب أعماله الفنية الشهيرة! ومضت إلى السجن مزهوّة بانتصارها على لوحة فان غوخ من دون أن تدري ربما كم أضرّت بقضية البيئة والاحتجاجات المشروعة بشأنها هي وغيرها من القضايا العادلة. كانت تلك الإطلالة في تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي، أغرب “هجوم” شنته منظمة “فقط أوقفوا النفط” البريطانية، بعدما أبصرت النور بنحو ستة أشهر، ضد أهداف اعتُبرت بعيدة من حروب الشعارات. وكانت المنظمة التي تعتبر نفسها منخرطة في أعمال “مقاومة مدنية” سلميّة، ستوجّه العديد من الضربات المفاجئة، بأساليب شتى، إلى حفلات موسيقية ومباريات رياضية، وإلى المواصلات العامة في لندن ومدن أخرى، وإلى حركة السير فيها أو بين بعضها بعضاً، وستشوّه مبانيَ رسمية وصناعية … كثيرة. وهذه الهجمات التي عرقل بعضها وصول سيارات إسعاف وإطفاء ونجدة إلى هدفها، استهدفت أساساً الإحساس العام بالأمان. إلا أن “المقاومة” الحريصة على إنقاذ الكوكب من براثن أعدائه البيئيين، وفي مقدمتهم النفط، لا تريد للناس أن يتمتعوا بسلام روحي في حضرة الفن أو أن يتلقوا العلاج في حالات الطوارئ بسرعة، كما يظهر!  والحق أن احتجاجاتهم كانت عبارة عن “ألاعيب” ذكية تهدف إلى إثارة الجدال واستقطاب الاهتمام. وربما كان الهجوم على لوحة فان غوخ أبرع “حيلة” للمنظمة بكل ما في الكلمة من معنى، إذ اعترفت لاحقاً بأنها كانت متأكدة تماماً من أن اللوحة مغطاة بزجاج شفاف لوقايتها. أي أن الهجوم برمّته كان “كذبة” خبيثة استهدفت الجمهور لا اللوحة، كما زعموا!  وكان الخطاب الذي ألقته الشابة (20 عاماً) بعد الهجوم، تعليمياً منفراً، ويقترب من إهانة ذكاء الآخرين. فكيف تفترض “طفلة” أنها تعرف أسرار البيئة وأخطارها على الناس أكثر منهم، وتسمح لنفسها بتوبيخهم لأنهم يسيرون باستهتار إلى القبر الذي حفروه لأنفسهم؟ المنظمة تعتبر نفسها وصية علينا وتشعر أنها مضطرة لتعريضنا إلى صدمات قوية كي نفيق من سباتنا، لأن الموت ينتظرنا جميعاً قريباً، كما يتخيل ناشطو الفعل البيئي المباشر مثل غريتا تونبرغ التي عُرف عنها التحذير بأن العالم سينتهي في عام 2023!  لا شك في أن استهداف “عباد الشمس” عاد على منظمة “فقط أوقفوا النفط” بشهرة واسعة في المملكة المتحدة والعالم. أما بالنسبة إلى نتائجه المعاكسة فكانت كبيرة هي الأخرى. وأظهر استطلاع رأي أجرته “يو غوف” أوائل هذا العام أن 78 في المئة من البريطانيين يعتقدون أن تلك “الحيلة” الكاذبة ومثيلاتها “تعرقل القضية بدلاً من أن تساعدها”. وثمة أمثلة عديدة لأشخاص أعاقت الاحتجاجات أعمالهم وحياتهم فاعتدوا على الناشطين جسدياً. ويخشى أن يفقد البعض أعصابهم ويرتكبوا جريمة ما ضد هؤلاء “المقاومين”. لكن المنظمة تقول إنها لا تريد محاباة الناس بل إزعاجهم. فهل هذا مجدٍ؟  إن استراتيجيتها، تقوم على تصور مفاده بأنه إذا أدرك المزيد من الناس حقيقة الوضع المناخي الطارئ فإنهم سيساهمون في جهود معالجته. ويكاد يكون من البديهي أن المشكلة لا تكمن في عدم تقدير خطورة الأزمة بل في الافتقار إلى القوة السياسية. إن تعمد استعداء الناس يعني أن المنظمة لا تريد أن تتحول إلى حركة شعبية قادرة على التغيير. قد يمكنها أن تستقطب اهتمام الدنيا بحيل ذكية يقوم بها خمسة ناشطين، لكنها لن تستطيع أن تبني بهم قوة سياسية مؤهلة للاستمرار وتحقيق أهداف “ثورتها”. ويصعب دحض المنظمة تهمة السذاجة. أعضاؤها شباب في الغالب، تنقصهم الخبرة ويقال إن بعضهم قد تعرض لما يشبه غسل الدماغ. ولم تقدم مبررات منطقية أو إجابات عن العديد من الأسئلة، في طليعتها ما الذي ستستبدله بالنفط؟ ووجهت بشكل لا يدل إلى النضج إنذارات إلى الحكومة بعدم إصدار المزيد من رخص التنقيب عن النفط والغاز أو استخراجهما، طالبة منها عقد اجتماع مع ممثليها، وإلا فإنها ستنكد حياة الناس العاديين باحتجاجاتها.  إلا أن للمنظمة آثاراً أعمق بكثير من ذلك. فقد خطفت الضوء في المملكة المتحدة وخارجها، ربما، عن منظمات بيئية مكرسة مثل “أصدقاء الأرض” وناشطين يعملون منذ عشرات السنوات على مستوى العالم لوقف التدهور البيئي العام ومعالجة تغير المناخ. فهي أبرع بكثير من كل ما عداها في ابتكار الحيل وتنفيذها.  والأدهى أن بعض أصحاب نظريات المؤامرة قد يذهبون إلى أن الحكومة تتيح المجال لناشطين من هذا النوع كي يعملوا، لأنهم يبررون لها تشريع قوانين صارمة تمكنها من البطش باحتجاجات مشروعة قد تتعلق بالبطالة أو أزمة تكلفة المعيشة أو السياسات العنصرية التي تستهدف المهاجرين وطالبي اللجوء. وعلى عادتها، تقف وزيرة الداخلية سويلا برافرمان بالمرصاد مدججة بأغلبية برلمانية تتيح لها تمرير تشريعات أكثر تقييداً للحريات والحقوق المشروعة، وبالتالي رفع أسهمها في أوساط الشعبويين البريكستيين استعداداً لمعركة حاسمة على زعامة الحزب في غضون أشهر. وقد تابعت بحماسة سير مشروع قانون “النظام العام” الذي طرحته وزيرة الداخلية السابقة بريتي باتيل ودخل حيز التنفيذ أخيراً. وهو يمنح الشرطة صلاحيات جديدة غامضة نوعاً ما ولا حدود لها تقريباً، الأمر الذي أدى بالشرطة إلى اعتقال 8 صحافيين كانوا يغطون أحد احتجاجات “فقط أوقفوا النفط”. وبات بوسع الشرطة أن تقيّم تحركاً ما أو تجمعاً بعينه وتفضّه بالقوة إذا شكّت بأنه سيؤدي إلى “تعطيل جدي” للحياة العامة. ويمكنها أن تطبق سياسة “الإيقاف والتفتيش” على نطاق أوسع مما مضى. أما العقوبات التي يشتمل عليها القانون الجديد، فقاسية للغاية، منها على سبيل المثال السجن سنة كاملة لمن يتدخل في عمل إحدى البنى التحتية. كما ينصّ على معاقبة من يربط نفسه بطريقة محكمة مع شخص آخر أو شيء ما على طريقة “المقاومين” البيئيين، بالحبس لستة أشهر.  ليس غريباً إذاً أن فولكر تروك، المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة كان في طليعة منتقدي هذا القانون “المقلق بشكل عميق”، معتبراً أنه “ليس ضرورياً ولا متناسباً [مع المخالفة المزعومة]”. وحذت حذوه منظمة العفو الدولية و”هيومان رايتس ووتش” وغيرهما. لكن لا يستطيع شجب القوانين الجائرة مهما بلغت قوته أن يخفي حقيقة أن احتجاجات الفعل المباشر يمكن أن تضرّ أكثر مما تنفع، وتؤذي قضية البيئة المشروعة، إذا نصّبت مجموعة قليلة لا تمثل إلا نفسها مسؤولة عن مستقبل المجتمع وتحكّمت بحياته.

التعليقات معطلة.