فؤاد البطاينة
إن التاريخ الموثق بالمخطوطة والرقيم والمسلة والملاحم بكل اللغات القديمة المسمارية والهيروغليفية بالاضافة الى سرديات التوراة التي بين أيدينا وأيديهم كمصدر كان وحيد للتاريخ لقبل ثلاثة قرون . تؤكد كلها بأن القدس أو حي واحد فيها، وفلسطين او شبر فيها لم تكن يوما وعبر التاريخ تحت سيادة اليهود للحظة واحدة لغاية احتلالها عام 1948. بل كانت دوما تحت سيادة الامبراطوريات والدول الاقليمية التي تعاقبت على حكم الاقليم الواقع من البحر المتوسط غربا الى حدود فارس شرقا وأواسط تركيا شمالا الى سيناء جنوبا.
وهي امبراطوريات مختلفة القوميات ابتدأت بالهوية العربية التي خرجت من الجزيرة واقامت الحضارة بين النهرين وصولا لفلسطين الكنعانية الأموريه، وتسمياتها البابلية من الاكادية والكلدانية والكندية والأرامية والاشورية وليس هناك باحث اوعالم أو مؤرخ أو أثاري غربي لا عربي من قال بغير عروبتهم . ثم تلتها او تلتهم الحثية والفرعونية المصرية والفارسية والإغريقة وأخيرا الرومانية، إلى أن حررها العرب بقيادة عمر ابن الخطاب لأول مرة من الأغراب عام 637 م.
علينا بداية أن نصحح مرة واحده مفهوم كلمة ملك او مملكه في التاريخ القديم والذي ينطبق على ملوك وممالك فلسطين بما فيها اليهودية لاحقا . لقد كانت كلمة “مملكه ” تطلق مجازا في القديم على المدن والمناطق، وتطلق كلمكة “ملك ” على رؤسائها او مشايخها .وهو تقليد نسخ عن السومريين واستمر حتى انتهت الامبراطورية الرومانية . وكانت في فلسطين العديد من الممالك على هذا النحو لدى دخول سيدنا ابراهيم لها وزيارته للقدس ومباركتة من قبل “ملكي صادق ” Melchizedek ملكها وكاهنها أنذاك، بحدود عام 1900 ق م حيث لم يكن في حينه قد ولدت اليهودية واليهود.
وعندما دخل جماعة سيدنا موسى الى فلسطين بحدود 1200 ق م وجدوا أمامهم فيها استنادا للنصوص التوراتية على الأقل ممالك كثيره ذَكر منها الاصحاحين 9 و 10 من سفر يشوع ممالك حبرون ويرموث والقدس واريحا والاموريين والكنعانيين والفرزيين والحويوين واليبوسييين . اما اليهود وحسب سرديات التوراة فإنهم بعد عهد القضاه قرروا أن يجعلوا لهم مملكة في مكان تواجدهم بالهضاب الشمالية كغيرهم من سكان وممالك فلسطين وطلبوا من شاول ذلك . ونص الفقره 15 من الاصحاح 11 من سفر صمويل الاول تقول ( فذهب كل الشعب الى الجلجال وملكوا عليهم شاول امام الرب).
ولم تكن بالطبع القدس ضمن تلك المنطقة ولم تصبح ضمن منطقتهم الاخرى التي تشكلت في الهضاب الجنوبية في بداية الامر بل كانت اي القدس مع بيت لحم مملكة يبوسية تفصل الكيانين القبليين المزعومين وبقيت كل فلسطين وبما يشمل القدس بيد الكنعانيين أو الفلسطينيين حسب سرديات التوراة، والتي قفزت قفزا دون توضيح فيما بعد الى دخولهم او سكنهم بالقدس مكتفية بالذكر انهم تعاونوا مع اليبوسيين وسكنوا معهم بالقدس ونقلوا تابوت العهد اليها وبنوا بيتا له . اي الهيكل وهي كلمة كنعانيه تعني معبد وكانت القدس مليئة بمعابد آلهات القبائل.
السرديات التوراتية تؤكد وبالأمثله الى جانب التاريخ الموثق كيف أن اليهود القدماء منذ أن دخلوا فلسطين وسكنوا في الهضاب الشمالية الى لحظة خروجهم منها نهائيا عام 380 م على يد الرومان كانوا كغيرهم من القبائل وشعوب المنطقة يعيشون تحت حكم الامبراطوريات التي تعاقبت على حكم المنطقه ومنها فلسطين يتمتعون بشيخة قبلية على المنطقة التي يسكنوها بموافقة ورضا الامبراطور المعني او وكيله رغم انهم عاشوا حياتهم هناك وهم في صراع مع السكان الاصليين لكونهم غرباء . والامبراطور او وكيله هو كما تؤكد سرديات التوراة في تطابق مع التاريخ، من كان يسمي ويعين شيوخ او ملوك اليهود ويوافق عليهم . وهو من كان يخلعهم ويبدلهم ويبدل اسماءهم كذلك . وهو من يسمح لهم ببناء معبدهم . وتقتصر سلطتهم على الشئون الدينية والاجتماعية وتأمين الضرائب للامبراطور ويصل ذلك الى ما يشبه الحكم الذاتي في مناطقهم في بعض الفترات.
، فالإصحاح 24 من سفر الملوك الثاني ينص على سبيل المثال على ان نبوخذ نصر قد خلع يهو ياقيم ملك يهوذا كما يدعونها بعد ان غضب عليه وعين عمه متنيا مكانه، وغير اسمه الى صدقيا . بل أن الفقرتين 17 و 18 من الاصحاح 12 من سفر الملوك الثاني تذكر بأن يهواش أحد ملوكهم او في الواقع شيوخهم، عندما راى حزائيل ملك ارام يتقدم نحو القدس ليؤدبهم ويخرجهم منها، قام بجمع كل الأقداس والمقتنيات والذهب من خزائن الرب ومنحها له كي يتركه وشأنه ملكا على جماعته.
وفي مثال اخر يخص بناء الهيكل حين عودة اليهود او بعضهم من سبي بابل، منعهم سكان القدس من اعادة بنائه، وبُني اخير بموافقة وامر الامبراطور . حيث جاء بالفقره 3 من الاصحاح 4 من سفر عزرا ما نصه ( فقال لهم زربابل ويشوع وبقية رؤساء أباء اسرائيل ليس لكم ولنا ان نبني بيتا لإلهنا ولكننا نبني للرب إله اسرائيل كما أمرنا الملك كوروش ملك فارس ) . علما بأن لكل قبيلة أو جماعة في القدس كان لها معبد لآلهتها ويطلق عليه بالكنعانية هيكل Hekal .
من يتابع تسلسل سرديات التوراة في فلسطين يجد القدس غائبه عنها كما في التاريخ المكتشف . ولم تكن حتى مستهدفة في حروبهم المدعى بها في الأسفار، ولا عقديا . فلم تذكر القدس (وكانت تسمى حينها كنعانيا اور سالم “اورشاليم” ثم يبوس ) ولو مجرد ذكر على لسان يعقوب والاسباط، وتكرس الغياب المطلق لذكر القدس في سيرة سيدنا موسى التوراتية والذي ذكر بوصاياه الثلاث في سفر يوشع اماكن ومدنا كثيرة لتقام فيها مذابح للرب و أمكنة لتابوت العهد ولم يذكر القدس منها . كما لم تذكر سرديات التوراة القدس من بين الاماكن التي تكون إليها وجهة حملة تابوت العهد قدس أقداس اليهود . كما غابت القدس واسمها من مدن الملجأ، ومن المدن المطلوب تقديسها في الفقرات من 7 – 9 من الاصحاح 20 من سفر يشوع . واستمر غياب القدس او ذكر اسمها في عهد القضاه تماما . ولم يدفن فيها أي من ملوكهم.
ليكن مفهوما أن القدس اعطيت اهمية لدى كتبة العهد القديم في مرحلة لاحقة وفي الاسفار المتأخرة . دون أساس من العقيدة. فالتقديس هو لتابوت العهد الذي يرمز للرب، و هذا التابوت قد سكن في مدن وقرى كثيره قبل أن يسكن القدس واختفت اثاره لليوم دون السؤال عنه . وتاريخيا لا يوجد تأييد او اشاره تاريخيه او توراتيه بأنها كانت عاصمة لهم ولا تحت سيادتهم ولم تكن لهم دولة يوما ما، ولا سلطة سياسية على حي في القدس اومدينه في فلسطين .. وكانت الدول الاقليمية التي تحكم فلسطين تعرف بأنهم وحدهم كانوا الغرباء في فلسطين بدليل انهم وحدهم من بين سكان وشعوب المنطقه كانوا يعاقبون بالسبي والطرد من فلسطين .
وإن اهتمامهم المتأخر بالقدس جاء في سياق متعمد لربط القدس بالعقيدة التوراتية في اطار عقدة “ملكي صادق ” الشخصيه المترسخه في العقيدة المسيحية ولم يوفقوا في ذلك، فقد جاءت الاشارات سياسية ومتخبطة بين المديح والذم للمدينة.
وأخيرا فإن اليهود القدامى، لم يدعوا بالقدس او بفلسطين منذ خروجهم منها عام 380 ميلادي حين طردهم الامبراطور ثيودوسيس الاول منها ومنع عليهم ممارسة طقوسهم في كل انحاء الامبراطورية، ولم يسمع أو يلمس إنس بأن لهم اي ارتباط مادي او عقدي بالقدس، الى ان ظهرت الصهيونية وقادت متهودي مملكة الخزر الآرين الى فلسطين اثر زوالها عن الخارطة على يد الروس والبيزنطيين . علما بأن العرب لم يتخذوا من القدس عاصمة لهم سابقا تحييدا لها عن رجس السياسة أسوة بمكه التي لم يتخذونها عاصمة.