«بريابوس» في تمثال برونزي من وادي الحِجر

5

يظهر برأس ضخم ويلتحم مباشرة بالصدر وكأنه بلا عنق

يقع وادي الحِجر في محافظة العُلا شمال غربي المملكة العربية السعودية، ويتبع إدارياً منطقة المدينة المنورة، وهو اليوم مَعلم تاريخي سياحي سعودي يشكّل متحفاً أثرياً مفتوحاً وسط الرمال في وادي القرى، دخل قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) للتراث العالمي في عام 2008، وأشهر معالمه مدافنه المنقوشة في الصخر البالغ عددها 116 مدفناً. خرجت من هذا الوادي مجموعات كبيرة من اللقى الأثرية، كشفت عنها حملات التنقيب والتطوير وترميم الآثار المتواصلة، منها مجموعة من التماثيل البرونزية الصغيرة، عُثر عليها في السنوات الأخيرة في مواقع متفرّقة. تتميّز هذه المجموعة بطابعها الكلاسيكي الروماني الصرف، وتحوي قطعاً تبدو غير مألوفة في هذا الركن من الصحراء، أبرزها تمثال يمثّل «بريابوس»، سيد الخصوبة، وحامي الجنائن والحقول والكروم.

عُرف وادي الحِجر حتى الأمس القريب باسم مدائن صالح، ونُسجت حوله روايات محليّة عديدة مستمدّة من الميراث الديني، غير أن الأبحاث الأثرية أثبتت بشكل قاطع أنه يشكّل في الواقع حاضرة من أبرز حواضر مملكة الأنباط التي قامت في شمال شبه الجزيرة العربية، وكانت عاصمتها البتراء في الشمال الشرقي من رأس خليج العقبة، شرق الأردن. امتدّت هذه المملكة شمالاً من دمشق إلى وادي الحِجر في ظل الإمبراطورية الرومانية، غير أنها فقدت استقلالها في مطلع القرن الثاني للميلاد، وخضعت لهذه الإمبراطورية، وتحوّلت إلى ولاية من ولاياتها، عُرفت باسم «الولاية العربية الرومانية». تبع وادي الحِجر هذه الولاية، وتحوّل إلى حصن حدودي سُمّي «حيجرا»، ضمّ ثكنة عسكرية ترتفع فوق تلة تقع في الجهة الجنوبية من الوادي، ظهرت معالمها أثناء حملة المسح التي قام بها فريق مشترك من الفرنسيين والسعوديين منذ بضع سنوات.

حافظ وادي الحِجر على طابعه خلال هذه الحقبة كما يبدو، ولم يتّخذ طابعاً رومانياً طاغياً. ظهر هذا الطابع بشكل محدود في مجموعة متنوعة من الشواهد الأثرية، منها بضعة تماثيل برونزية من الحجم الصغير، فقدت معالمها بفعل الأكسدة. تحوي هذه المجموعة قامة أنثوية تمثّل على الأرجح نموذجاً من النماذج الأنثوية المكرّسة في قاموس الفن الكلاسيكي اليوناني، وهو النموذج المعروف يونانياً باسم «نيكيه»، المعبودة التي أطلق عليها الرومان اسم فيكتوريا، أي ربة النصر، وقامة أخرى ترفع ذراعيها أفقياً في حركة رشيقة، وتمثّل على الأرجح ما يعرف باسم «بوتو»، وهو الفتى الملائكي الذي يظهر جماعياً في مشاهد تقليدية متنوعة، منها المشاهد الرعوية والبحرية.

في المقابل، نجحت عمليات التنظيم المتأنية بإعادة عدد من هذه التماثيل إلى شكلها الأصلي، وشكّلت هذه القطع مجموعة متآلفة تتميز بطابعها الكلاسيكي الصرف. تحوي هذه المجموعة ثلاثة تماثيل حيوانية، تحاكي المثال الواقعي الحسّي، وتمثل نسراً ومعزة وجملاً، كما تحوي تمثالين آدميين، يمثّل أحدهما شاباً أمرد يختزل بعريه الحسن اليوناني، ويمثّل الآخر رجلاً ملتحياً ذا وجه أفطس، يبدو بديناً ودميماً. يمسك الشاب بيده اليسرى قطعة من جلد تتدلّى على كتفه الأيمن، ممّا يوحي بأنّه من فصيلة «الساتير»، أي جنّ الغابات. ويجسّد الرجل الملتحي نموذجاً شاع في العالم الروماني، يُعرف باسم «بريابوس».

عُرضت التماثيل الحيوانية الثلاثة ضمن معرض أقيم في «معهد العالم العربي» بباريس في خريف 2019، تحت عنوان «العُلا واحة العجائب»، وعُرض تمثال «الساتير» إلى جانبها، وساهم هذا العرض في شيوع صورها إعلامياً بشكل واسع. في المقابل، بقي تمثال «بريابوس» في الظل، ولم يُعرف إلّا من خلال التقارير العلمية التي رصدت اكتشاف هذه التماثيل، ونشرت صورته المزدوجة قبل ترميمه وبعد استعادته معالمه بشكل كامل إثر هذا الترميم. عُثر على هذا التمثال إلى جانب تمثال «بوتو»، ويبلغ طوله نحو 8 سنتيمترات، ويمثل قامة فقدت الجزء الأسفل من ساقيها كما يبدو، تحضر هنا في وضعية المواجهة.

يظهر «بريابوس» برأس ضخم، يلتحم مباشرة بالصدر، وكأنه بلا عنق. العينان واسعتان، والأنف بارز وأفطس، والفم عريض، مع شق أفقي في الوسط يفصل بين الشفتين بشكل جلي. يعلو هذا الوجه شعر كثيف تكلّله أربع خصل عريضة متجانسة، ويحد خدّيه شريطان عريضان يمثّلان لحية تستقر عند الكتفين. يرفع الرجل ذراعه اليمنى نحو الأعلى باتجاه الصدر، ويرتدي معطفاً قصيراً تعلوه بطانة عريضة تتكوّن من شريطين أفقيين. يتدلّى هذا المعطف عند الخصر، ويكشف عن عورة الرجل، ووفقاً للمثال الخاص الذي اشتهر به «بريابوس».

لا نجد لهذه الشخصية ذكراً في أقدم المصادر اليونانية، وهو من المعبودين الصغار، والروايات التي تذكر أصله متعدّدة، وأشهرها تقول إنه ابن أفروديت، سيّدة الحسن والغواية، من زيوس، سيد المعبودين. أثارت هذه الولادة غضب هيرا، الزوجة الشرعية، فجعلت الطفل دميماً بدافع الغيرة، حتى إن أفروديت تخلّت عنه وأبعدته، فتلقّاه راعٍ، وتولّى تنشئته، فأضحى سيّد الخصوبة، وحامي المراعي والحقول والمنابت، وأقيمت له في هذه المرابع المتعددة تماثيل تمثّل قوّته كحامي الحمى. شاعت صور سيد الخصوبة في آسيا الصغرى، وعرفت انتشاراً واسعاً في مصر الرومانية، كما توحي مجموعة كبيرة من تماثيله الطينية التي دخلت المتحف البريطاني في لندن، ومصدرها مستوطنة نقراطس التي تتبع في زمننا محافظة البحيرة.

تشكّل تماثيل وادي الحِجر البرونزية مجموعة صغيرة تشهد لحضور متواضع للميراث اليوناني الفني في هذه البقعة من الحجاز، وتقابلها مجموعة مشابهة خرجت من قرية الفاو التي تقع جنوب غرب الرياض، وتتقاطع مع وادي الدواسر. في هذا الميدان، يبدو مجسّم «بريابوس» فريداً من نوعه، ويشهد لحضور خاطف لهذا المعبود الصغير في شبه جزيرة العرب.

التعليقات معطلة.