لعبت بريطانيا دورًا محوريًا في تاريخ العراق الحديث، بدءًا من تأسيس الدولة العراقية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما وضعت أسسًا للملكية الهاشمية ودعمت نظامًا سياسيًا يعكس مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. ورغم أن العقود اللاحقة شهدت انحسار النفوذ البريطاني لصالح الولايات المتحدة ودول أخرى، إلا أن بريطانيا تبدو اليوم وكأنها تعود بخطى ثابتة إلى الساحة العراقية، حاملة معها مشروعًا قد يعيد تشكيل العراق في إطار “قديم جديد”.
ملامح العودة البريطانية
تتضح ملامح هذا المشروع من خلال تصريحات ودور السفير البريطاني الأسبق في العراق، ستيفن هيتشن، الذي أظهر فهمًا عميقًا لتركيبة المجتمع العراقي وتعقيداته. إذ تسعى بريطانيا إلى استثمار هذا الفهم لترتيب المشهد السياسي بما يتماشى مع رؤيتها لمستقبل المنطقة. ويبدو أن بريطانيا تركز على إحياء الروابط التاريخية والاجتماعية، بما في ذلك علاقتها مع الجالية اليهودية العراقية، التي يُنظر إليها كجزء من مشروع شامل لتغيير النظام.
العودة من بوابة النفوذ الإيراني
يأتي المشروع البريطاني في ظل تنامي التحديات الإقليمية، وأبرزها النفوذ الإيراني الذي أصبح عائقًا أمام استقرار العراق واستقلاله. تعمل بريطانيا بالتعاون مع أطراف إقليمية ودولية وفي مقدمتها إسرائيل على تقليص هذا النفوذ. يتجلى هذا في الحملة المستمرة لاستهداف الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران، التي تعتبرها بريطانيا حجر عثرة أمام أي تغيير حقيقي.
العراق بين القديم والجديد
الحديث عن “العراق القديم الجديد” يعكس رغبة بريطانيا في إعادة العراق إلى دوره التاريخي كدولة مدنية قوية ذات سيادة، بدلاً من كونه ساحة لصراعات إقليمية ودولية. لكن هذا الطموح لا يخلو من التحديات، إذ يواجه المشروع مقاومة داخلية من القوى المرتبطة بإيران، فضلاً عن تعقيدات المشهد السياسي والاجتماعي العراقي.
هل العودة ممكنة؟
أن المشروع البريطاني يبدو وكأنه يتمتع بزخم كبير ودعم إقليمي ودولي متزايد. فالدول العربية الكبرى باتت ترى في تقليص النفوذ الإيراني خطوة ضرورية لاستقرار المنطقة. من جهة أخرى، تسعى بريطانيا إلى كسب دعم العراقيين من خلال تعزيز مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التي يمكن أن تعيد بناء الثقة بين الشعب العراقي والمجتمع الدولي.
ان زيارة رئيس وزراء العراق الأخيرة إلى بريطانيا وتوقيع عدد من الاتفاقيات الأمنية والصناعية والعسكرية والمدنية يمكن قراءتها ضمن سياق سياسي أعمق. يبدو أن هذه الزيارة لم تكن مجرد رحلة بروتوكولية لتعزيز العلاقات الثنائية، بل تحمل أبعادًا استراتيجية تعكس محاولات الحكومة العراقية البحث عن “ملاذ آمن” في ظل الضغوط المتزايدة على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية.
الهروب إلى الملاذ الآمن
بريطانيا، التي لعبت دورًا رئيسيًا في تأسيس الدولة العراقية الحديثة، تمتلك معرفة عميقة بطبيعة المجتمع العراقي وتعقيداته السياسية والاجتماعية. هذا الفهم التاريخي يجعلها شريكًا موثوقًا بالنسبة لأي قيادة عراقية تسعى إلى تحقيق نوع من الاستقرار أو الحماية في ظل الأزمات المتعددة التي تواجهها.
في السياق الدولي، تتعرض الحكومة العراقية لضغوط كبيرة نتيجة النزاعات الجيوسياسية، خاصة تلك المتعلقة بالنفوذ الإيراني داخل العراق والتوترات الإقليمية بين طهران ودول الخليج وإسرائيل. أما داخليًا، فهناك استياء شعبي متزايد من الفساد وسوء الإدارة والنفوذ الايراني غير المرحب به شعبيا، إضافة إلى تصاعد احتمالات قيام انتفاضات أو احتجاجات جماهيرية.
معرفة بريطانيا العميقة بتفاصيل المجتمع العراقي وقدرتها على التفاعل مع جميع مكوناته تمنحها مكانة خاصة كشريك يمكن الاعتماد عليه. بالإضافة إلى ذلك، فإن بريطانيا تسعى إلى استعادة دورها الإقليمي في الشرق الأوسط، والعراق يمثل بالنسبة لها نقطة محورية لتحقيق هذا الهدف.
زيارة رئيس الوزراء العراقي لبريطانيا تحمل دلالات واضحة على محاولة الحكومة البحث عن متنفس جديد وسط ضغوط دولية وإقليمية متزايدة. بريطانيا، بمكانتها التاريخية والمعرفية، تمثل خيارًا استراتيجيًا للعراق ليس فقط لتعزيز شراكاته، ولكن أيضًا لتأمين دعم دولي يعزز موقفه في مواجهة التحديات الحالية.
السؤال الأهم الآن: هل بريطانيا ستقود تغييرا ناعما في طبيعة الحكم والنظام السياسي في العراق وتصحيح المسار بعد الفوضى السياسية والادارية التي عمت البلاد مابعد احداث 2003 ؟
الجواب يتلخص بالتالي .
بريطانيا لديها مصلحة واضحة في استعادة دورها المؤثر في العراق كجزء من رؤيتها الاستراتيجية الأوسع للشرق الأوسط. يمكن تفسير ذلك برغبتها في تقليص النفوذ الإيراني، تعزيز استقرار المنطقة بما يخدم أمنها القومي ومصالحها الاقتصادية، إضافة إلى بناء علاقات جديدة تعزز نفوذها بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي .