د. عبد الهادي غازي
مئة عام مرّت على الشعب الفلسطيني، وذيول الوعد المشؤوم وعد بلفور ماتزال تنسج غمامة قاتمة تُخيم على واقع الفلسطينيين، وتقف في وجه أحلامهم بالعودة إلى وطن فقدوه، ليحل محلهم شذاذ الآفاق، ويقيموا دولة غريبة بين محيط عربي تواطأ بطريقةٍ أو بأخرى أو سكتَ عن هذه الجريمة المستمرة.
بريطانيا العظمى التي لم تَغِبْ عنها الشمس ارتكبت جريمة لا تغتفر بحق الشعب الفلسطيني والمسلمين على وجه العموم؛ فالمصائب المتوالية على المنطقة العربية بدأت تترى على البلدان وأهلِها منذ أن وقّع بلفور وعده، فالتهجير والقتل المتواصل والتبعات النفسية والاقتصادية، وما جرّه الصهاينة من حروب توسعية على العرب جعلت من بريطانيا الآثم الأكبر بحق المنطقة العربية والعالم الإسلامي.
وفي الوقت الذي يستعد فيه الفلسطينيون والعرب لتذكر مئوية تلك الجريمة، تُطل علينا تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا لتتفاخرَ بأن دولتها هي من أنشأت دولة إسرائيل، وأنها تدعمها وتزف التهنئة لها بمرور مئة عام على الوعد الذي اقتطعت على إثره أرض فلسطين، حتى إنها تمادتْ بتبجحها وأرسلت دعوة رسمية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للمشاركة بفعالية رسمية من المقرّر إقامتها في لندن الخميس المقبل، ناسية أو متناسية أن هناك دعوات لمقاضاة بلادها على ما اقترفته بحق فلسطين والفلسطينيين، وكان عليها أن تخجل من تلك التصريحات وتبحث عن مُسوّغات للتملص مما فعله أسلافها من المسؤولين والحكام. في حين أبدت بعضُ الشخصيات البريطانية خجلها من المشاركة في الاحتفال بهذه الذكرى المخزية، ومنهم زعيم حزب العمال البريطاني (المعارض)، جيرمي كوربين، وهو الرجل المعروف بمواقفه المُناصرة للشعب الفلسطيني والمُناهضة للسياسة الإسرائيلية والغربية الداعمة لاحتلال الأراضي الفلسطينية، الذي رفض المشاركة في احتفالات الحكومة البريطانية بالذكرى المئوية لوعد بلفور.
ويبدو أن الشَرَك الذي نصبته للعرب في فلسطين أيام كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس ستقع فيه عاجلًا أو في المدى المنظور، ألا وهو فخ الإضعاف ثم التجزئة، فأولى الخطوات الحثيثة التي تسير فيها نحو هذا الفخ هي خروجها عن منظومة الاتحاد الأوروبي، وثانيها المطالبات بالانفصال التي برزت منذ مدة عند الإسكوتلنديين والإيرلنديين الشماليين، ويبدو أن العقد سينفرط بصيحات خجولة هنا وهناك للويلزيين بالانفصال، ليبقى الإنجليز وحدهم في جزء من الجزيرة البريطانية ضعفاء محاصرين ومجردين من القوتين الاقتصادية والبشرية.
ويعلم حكام بريطانيا أنّ هذا ليس مجرد أمانيّ، إنما هو واقع سيتحقق، وأن المتغيرات الدولية المتسارعة وحُمّى الانفصال التي انتشرت في عدد من دول أوروبا والعالم ستلفحهم بلهيبها. فعالم اليوم ليس عالم الأمس قبل مئة عام ٍخلت، وأضحى للشعوب كلمتها، ولن تُذعن لوثيقة أو اتفاق وتبقى أسيرة له ليحدد لها مصيرها.
ومن المعلوم لدى الجميع أن مظلة العمّ سام التي استظلت بريطانيا تحتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية قد أصبحت مُهترئة، ولا تكفي أصحابها وتسعى للانشغال بمشاكلها الداخلية – وما أكثرها – وعلى بريطانيا الآنٍ أن تجد لها مكانًا جديدًا تحت الشمس، بعيداً عن إسرائيل وأحلامها التي بدأت تتحول إلى كوابيس، وأن تقترب أكثرَ من الدول التي تركتها نهبًا للحروب والنزاعات المسلحة، بعد أن سطت على ثرواتها واستعبدتْ أبناءها لأجيال مضت، علَّها تُكفر عن آثامها وتفتح صفحة جديدة مع تلك الدول، لتمدَّها بنُسغ البقاء والاستمرار في مقدمة الدول إذا ما وقع المحذورُ الذي تسعى لتجنّبه، وأن يكون لبريطانيا مجلسُ عموم قوي وقادر على لجم القيادات الرعناء أو على الأقل كبح جِماحها، لئلا تنجرَّ إلى حالة الجمود والتقوقع والانغلاق المتوقع حدوثه في قابل الأيام.