مقالات

بشير عبدالفتاح

الانتخابات النمسوية ضمن لوحة أوروبية أعرض
بينما دأب علم النظم السياسية على التعاطي مع الظاهرة السياسية باعتبارها عملية مؤطرة حزبياً ضمن منظومة تطوي بين ثناياها نخباً وحركات وأيديولوجيات تقليدية، بدأت تجتاح العالم أخيراً موجة تمرد على تلك المنظومة.
وتجلى ذلك في اتجاه مناهض للأحزاب والنخب السياسية التقليدية، بدت ملامحه في مستوى توجهات بعض السياسيين، كما في السلوك التصويتي لقطاعٍ لا بأسَ به مِن الناخبين في بلدان غربية شتى، ضد مرشحين تقليديين في الاستحقاقات الانتخابية كافة، ولمصلحة اتجاهات جديدة ربما لا تمت إلى تلك المنظومة بصلةٍ.
وأطلقت صدمة تصويت 51.9 في المئة من الناخبين البريطانيين بنعم لخروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي إشارة في مسار التمرد الشعبي على المنظومة السياسية التقليدية والوحدة الأوروبية. وفي السياق ذاته، تخلى الناخبون الأميركيون عن هيلاري كلينتون، صاحبة الخبرة العتيدة في المنظومة السياسية التقليدية، وآثروا انتخاب دونالد ترامب، الذي جاء من خارج المنظومة ذاتها، ليستفيد من تمرد ناخبي الأرياف والمناطق النائية، على نسق سياسي راسخ.
ومن جانبه، تمكّن سيباستيان كورتز، السياسي النمسوي الذي يبلغ من العمر 31 عاماً، ووزير الخارجية، من الفوز بعدما حصد حزبه المسيحي الديموقراطي 31 في المئة من الأصوات، ليصبح أصغر مرشح في أوروبا لتشكيل حكومة. تلك الحكومة يتوقع لها أن تضم حزب الحرية اليميني المتطرف المناهض لأوروبا والمعادي للمهاجرين واللاجئين، لتنهي بذلك عقداً من حكم يمين الوسط، وتمهد لعودة اليمين المتطرف إلى الحكم في النمسا.
حقق كورتز هذا الإنجاز بعد نجاحه في استثمار مظاهر القلق التي تستبد بقطاع واسع من النمسويين إزاء تدفق المهاجرين وطالبي اللجوء إلى الحد الذي قد يجعل منهم أقلية في بلدهم، وفق تحذيرات زعيم حزب الحرية اليميني خلال الحملة الانتخابية، من أجل تعبئة الناخبين المحافظين والشباب من خارج المنظومة السياسية التقليدية. استخدم كورتز خطاباً سياسياً حازماً تجاه الهجرة واللجوء، كما برع في تقديم نفسه في صورة جيدة كزعيم شاب قادر على تحديث البلاد منذ تسلمه وزارة الخارجية عام 2013، إذ انتقد سياسة المستشارة الألمانية انغيلا مركل الانفتاحية حيال الهجرة واللجوء، ولعب دوراً بارزاً في إغلاق ما بات يعرف بطريق البلقان للمهاجرين، وطالب بخفض المساعدات الاجتماعية للأجانب، كما تعهد إعادة الأولوية للنمسويين، مستقطباً إلى حزبه مرشحين من جيل الشباب من غير السياسيين.
رفع كورتز شعار «النمسا أولاً»، وأعلن عزمه وقف تدفق الأجانب وإغلاق دور الحضانة الإسلامية، الأمر الذي دفع اليمين المتطرف إلى اتهامه بـسرقة برنامجه!
ومن شأن تشكيل حكومة جديدة في النمسا لا تخلو من تيارات وحركات يمينية متطرفة، أن يجعل منها معضلة للاتحاد الأوروبي، الذي ستتولى فيينا رئاسته الدورية في النصف الثاني من العام المقبل، فيما يتراجع التوجه النمسوي المؤيد للعملية الأوروبية، مع دعوة حزب الحرية إلى التقارب مع مجموعة «فيسغراد» التي تضم بلداناً على غير وفاق مع بروكسيل، كبولندا وهنغاريا، بالتزامن مع اقتراب نهاية المهلة المحددة لإنجاز مفاوضات خروج بريطانيا، وهذا بينما يتنامى التأييد الشعبي للقوميين في دول أوروبية عدة، في مقدمها ألمانيا.
وفي إيطاليا، عمدت حركة «النجوم الخمس»، التي ظهرت عام 2009 في سياق بزوغ حركات متمردة على الوضع السياسي والاقتصادي العام في أوروبا، إلى استغلال الدعوة إلى حل الحكومة وإجراء انتخابات عامة مبكرة بعد استقالة رئيس الوزراء رينزي، إذ أعلن زعيمها الفنان الكوميدي السابق بيبّي غرانيّو، عزم حركته خوض تلك الانتخابات وحصد غالبية تؤهلها لتشكيل الحكومة.
وربما راهن غرانيو في ذلك، على نجاح حركته في الاقتراب الشديد من المواطن عبر اهتمامها بمحاور عدة تتصل بأمور حيوية في حياته اليومية، كالبيئة، والطاقة النظيفة، إضافة إلى ضرورة إتاحة شبكة الإنترنت للإيطاليين مجاناً. وهو الأمر الذي أكسب تلك الحركة شعبية كبيرة، تجلت في الانتخابات النيابية التي أجريت في شباط (فبراير) 2013، والتي وجهت خلالها ضربة قاصمة للتحالف اليساري، بعدما حصدت 25 في المئة من الأصوات منحتها 110 مقاعد في مجلس النواب و58 مقعداً في مجلس الشيوخ، لتصبح ثاني أكبر تكتل برلماني. كما برزت الحركة ذاتها مجدداً في الانتخابات البلدية التي أجريت في حزيران (يونيو) 2016، والتي حصدت خلالها مرشحتها فيرجينيا راجي 67 في المئة من الأصوات لتغدو أول امرأة تتولى رئاسة بلدية روما. وهو الأمر الذي أرجعه خبراء إيطاليون إلى ما اعتبروه غياباً للسياسة الحقيقية في البلاد، ورفضاً من جانب المواطنين للسياسة والساسة التقليديين، فيما كانت غالبية مرشحي الحركة للبلديات والبرلمان من الوجوه غير المنتمية حزبياً.