محمد شومان
فرنسا دائماً وعبر التاريخ هي «الاستثناء الأوروبي» في الأفكار والانتفاضات والثورات، وفرنسا أيضاً لها قوة الإلهام والخيال، وبناء نماذج التمرد على كل أنواع السلطة، هي الثورة الفرنسية عام 1789، وثورة 1848، وكومونة باريس 1871، وثورة الشباب عام 1968، والمفارقة أن كل ثورات فرنسا لم تنجح في الوصول إلى السلطة لكن أفكارها وقيمها كانت ذات تأثير هائل في فرنسا والعالم، حيث ألزمت فرنسا الدولة والمجتمع بقيم الحرية والعدل والمساواة، والديموقراطية والحقوق المدنية والعلمانية. وحصل الفرنسيون عبر نضالهم التاريخي المستمر والحيوي على مكاسب اجتماعية، وسياسية وعمالية وطلابية كبيرة .
لكن ما يعرف بالإصلاحات النيوليبرالية التي انطلقت منذ منتصف الثمانينات، ثم الأزمة المالية عام 2008، وسياسات التقشف والهدم الاجتماعي للشركات التي نفذتها الحكومات المتعاقبة .. وصولاً إلى حكومة ماكرون أدت إلى تفكيك ما تبقى من النموذج الاجتماعي الفرنسي، على حد توصيف عالم الاجتماع الفرنسي الشهير كريستوف جيليي الذي يقول أن سياسات العولمة الاقتصادية خلال الثلاثين سنة الأخيرة كانت دائماً في خدمة نخبة ضيقة مقابل أغلبية الفرنسيين، أو فرنسا الهامش، ما خلق تناقضاً طبقياً كبيراً ومعاناة واسعة للفقراء والطبقة الوسطى .. ويضيف جيليي، فرنسا الهامش هو المجال الجغرافي الذي تندر فيه فرص العمل وتنتشر فيه البطالة والحرمان من الخدمات الحكومية .. وهذا الهامش ليس فقط المناطق الريفية وإنما أيضاً سكان ضواحي المراكز الحضارية الكبيرة الذين يشكلون طبقة اجتماعية تجمع الفلاحين والعمال والعاطلين والمياومين والمتقاعدين .. هذا الخليط يشكل 60 في المئة من السكان أي غالبية الكتلة الانتخابية .
أحدث إجراءات الإصلاحات النيوليبرالية كانت خلال هذا العام – يوافق الذكرى الخمسين لمظاهرات 1968- عندما ارتفعت أسعار الديزل بنحو 23 في المئة خلال الـ12 شهراً الأخيرة، والمشكلة أن الديزل يمثل 80 في المئة من استهلاك الوقود، أي أنه يؤثر في مستوى إنفاق أغلبية الفرنسيين، وكانت الحكومة قررت زيادة الضرائب على البنزين والديزل بداية من الشهر القادم، نظراً للحاجة إلى مكافحة الاحتباس الحراري العالمي ولتمويل الاستثمارات في مجال الطاقة المتجددة. لكن ممثلي السترات الصفر يؤكدون أنه لاتوجد علاقة بين هذه الضريبة وخفض انبعاث الغازات الدفيئة، بدليل أن الحكومة تمنح شركة توتال إعفاء من الضرائب، كما أن الدخل من ضريبة الوقود كان سيذهب إلى تغطية العجز في الميزانية، والذي جاء نتيجة إلغاء ضريبة الثروة ومنح الأغنياء إعفاءات ضريبية واسعة. وبدأت حركة الاحتجاج على خطط زيادة الضريبة على الوقود بكتابة مواطنة – من أصول غير فرنسية – بيان نشرته في أيار (مايو) الماضي على الإنترنت، جمع توقيعات ارتفع عددها لأكثر من مليون توقيع بحلول أوائل تشرين الثاني (نوفمبر)، وبالتوازي مع حركة التوقيعات ظهرت مئات من مجموعات الفايسبوك في جميع أنحاء فرنسا للدعوة والحشد لمظاهرات شابها أحداث عنف وصدامات وقطع طرق وعمليات تخريب لكنها بالقطع غيرت وجه فرنسا، وطرحت تحديات وأسئلة كثيرة عن حدود الممارسة الديموقراطية، وتراجع ثقة المواطنين بالأحزاب ومؤسسات الدولة والنقابات والنخب السياسية، وأتصور أن أهمية هذه الأسئلة تكمن في استنادها إلى حركة مجتمعية وسياسية، انتقلت من فرنسا إلى دول أوروبية أخرى .. وربما تنتقل إلى المنطقة العربية حيث تشكلت في تونس حركة السترات الحمر التي تطالب بإقالة الحكومة وتحسين أوضاع المعيشة .
الفاعلية المجتمعية للسترات الصفر تبدت في أن الحكومة تصدت للمظاهرات بحزم واتهمت بعض المتظاهرين بالتخريب والإضرار بالسياحة والاقتصاد، ومع ذلك تراجعت عن كل خططها لزيادة الضرائب على الوقود ووعدت بعدم تحريك أسعار الكهرباء والغاز. ودعت ممثلي السترات الصفر إلى الحوار. لكن الحركة استمرت واكتسبت زخماً جديداً ووسعت من نطاق أهدافها، حيث طالبت بتحسين ظروف المعيشة وإسقاط الحكومة، والحقيقية أن رمزية السترة الصفر وانتشارها حظي بشعبية واسعة في الضواحي وفي الريف الفرنسي، وصولاً إلى باريس .. فقد ارتدى الجميع السترة المعدة أصلا لتنبيه السائقين إلى من يلبسها تحت ظلمة الليل، معلنين عن حضورهم، وضرورة الانتباه إليهم .. وأن زمن الصمت انتهى، وأن على ماكرون المتهم بكونه رئيس الأغنياء أن يراجع سياساته، ويهتم بتحقيق العدالة الاجتماعية الفرنسية.
نجحت السترات الصفر في الشارع، كما في العالم الافتراضي، في حشد وتنظيم مئات الألوف من دون قيادة أو دعم من الأحزاب أو النقابات، ربما باستثناء تأييد بعض النقابات وأحزاب اليمين المتطرف !! وتؤكد أغلب التقارير أن السترات الصفر هي حركة اجتماعية عفوية، واسعة، وبعيدة عن التطرف اليميني أو اليساري، لذلك لم تتطرق في شعاراتها إلى قضايا العرق أو الهجرة أو الدين أو القومية، فهي حركة مطلبية وسعت من مجالها السياسي والجغرافي، حيث لن تتوقف عند إلغاء ضرائب الوقود، وإنما طالبت بتخفيف معاناة الفرنسيين من خلال رواتب أعلى وعدالة اجتماعية وضمان خدمات أفضل. ورغم أحداث العنف والتخريب التي رافقت المظاهرات بتأثير بعض المتطرفين من أقصى اليمين واليسار فإن الحركة حظيت بتأييد 72 في المئة من الفرنسيين، فيما تراجعت شعبية ماكرون إلى مستويات غير مسبوقة، من هنا فإن سؤال الساعة هو أين تتوقف مطالب السترات الصفر كحركة رفض اجتماعي وسياسي؟ وهل ستستمر في ضوء ما جاء في الخطاب الأخير لماكرون والذي دعا فيه إلى الحوار الوطني، وإلى رفع الحد الأدنى للأجور 100 يورو، واتخذ مجموعة من الإجراءات والإعفاءات الصريبية، بعبارة أخرى هل ستكون هذه الإجراءات كافية لوقف المظاهرات وإنهاء حركة السترات الصفر.
وبغض النظر عن مستقبل الاحتجاجات الصفر ونتائجها وآثارها داخل وخارج فرنسا، فإن هناك الاهتمام العربي والدولي بما يجري في فرنسا يدفعني لطرح أربع ملاحظات أود مشاركة القارئ التفكير فيها لأن تجاهلها قد يؤدي إلى تبني أحكام خاطئة عند أي محاولة لفهم وتحليل حركة اجتماعية وسياسية واسعة مثل السترات الصفر، وهي :-
الملاحظة الأولى: المقارنة المتعسفة بين ثورة الطلبة والعمال في فرنسا 1968 وحركة السترات الصفر 2018، حيث يحاول البعض الترويج لفكرة الامتداد التاريخي للثورات والانتفاضات الشعبية ضد الرأسمالية، لكن التاريخ لا يكرر نفسه، وفرنسا اليوم والعالم ليس كما كان قبل خمسين عاماً. وأفكار اليسار والوجودية والسريالية كانت منتشرة، ولم تكن فرنسا تتجه إلى اليمين كما هو حاصل الآن، ولم يكن بها أحزاب يمينية متطرفة وقوية. في العام 1968 كان العالم منقسماً إلى معسكرين شيوعي ورأسمالي، وكانت فرنسا تعاني من القبضة الحديدية للجنرال ديجول تحت دعوى الأمن وحماية الجمهورية ومع ذلك كانت دولة الخدمات والعدالة الاجتماعية متحققة، أما اليوم فإن النيوليبرالية والعولمة والأزمة الاقتصادية قلصت من أدوار الدولة والمزايا التي كان يتمتع بها المواطنون، من هنا فإن الاحتجاجات الصفر هي مجرد حركة مطالب، وليست حركة تغيير شامل، تهدف إلى بناء عالم جديد بلا رأسمالية أو استغلال. وأعتقد أن لثورة الشباب خصائص وسمات تختلف تماماً عن حركة السترات الصفر، رغم ما يجمعهما من تمرد ورفض لكثير من الأوضاع السائدة في فرنسا .
الثانية: خطأ المقاربة بين شتاء فرنسا الساخن والأصفر، وبين الربيع العربي، لأن لكل منهما سياقه السياسي والاجتماعي وظروفه الخاصة، ومن الصعب تماما ًالمقاربة بين المجتمع الفرنسي والمجتمعات العربية، صحيح أن كلاً منهما اعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي في الدعوة والحشد والتنظيم والتحريك ولكن ذلك لايوفر دلالة معينة، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي من أهم ادوات الاتصال في العصر الرقمي الذي نعيشه، وقد استخدمتها ثورات وحركات اجتماعية عديدة في أوكرانيا واليونان وإسبانيا والبرتغال. من جانب آخر فإن الانتفاضات العربية المعروفة إعلامياً بالربيع العربي كانت تهدف إلى تغيير النظم السياسية وليس مجرد تحقيق بعض المطالب الخاصة بالضرائب أو تحسين ظروف المعيشة، أضف إلى ذلك الطابع السلمي لأغلب انتفاضات العرب والترحيب الأوروبي والأميركي الواسع بالربيع العربي مقابل الصمت وعدم تأييد ما جرى في فرنسا .
الثالثة: تحيز أغلب التغطيات الإعلامية الأوروبية والأميركية تجاه حركة السترات الصفر حيث لم تحظ بالاهتمام الكافي، وجرى التركيز على عمليات قطع الطرق وأعمال العنف والتخريب التي رافقت مظاهرات باريس، ومنحت وسائل الإعلام الغربية فرصاً أكبر للمسؤولين في الحكومة مقابل ممثلي حركة السترات الصفر والذين حصلوا على فرص محدودة للظهور على الشاشات. ويمكن فهم أسباب هذا التحيز في الإعلام الأوروبي والأميركي، لكن المحير أن الإعلام العربي في أغلبه اتخذ مواقف مشابهة حيث تجاهل الأحداث ولم يمنحها اهتماماً كبيراً، ونقل عن الإعلام الفرنسي وجهات نظر الحكومة فقط رغم أن بعض وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية قدمت تغطيات متوازنة كان من الممكن للإعلام العربي نقلها أو حتى الإشارة لها.
الملاحظة الرابعة: تتعلق بإشكالية التفكير بالمؤامرة عند تحليل حركة السترات الصفر، والتي صارت آفة لايمكن التخلص منها، فقد انتشرت لدى بعض الفرنسيين ووصلت إلى العالم العربي، حيث روج البعض إلى مقولة أن أصحاب وكالات النقل هم الذين حركوا أصحاب السترات الصفر، لأن ارتفاع أسعار الوقود سيلحق بالقطاع خسائر كبيرة، بينما اتجه البعض إلى فكرة أن ما يحدث في فرنسا تحركه أصابع خفية لأن فكرة الرئيس ماكرون بتشكيل جيش أوروبي موحد قد أثارت غضب الولايات المتحدة ودفعتها إلى دعم هذه المظاهرات !! في المقابل ظهرت اتهامات لموسكو بالتدخل في أحداث فرنسا من خلال ترويج بعض المواقع الروسية لأكاذيب وشائعات ساهمت في اشتعال المظاهرات. أما أغرب طبعات نظرية المؤامرة فهي أن جماعة الإخوان المسلمون، من خلال أعضائها في فرنسا، لعبت دوراً كبيراً في تفجير أحداث العنف والتخريب في باريس !!