من أزمنة الثنائي في حياته الرتيبة إلى شكاوى المناضلة الجزائرية وسط رمال ساخنة
مشهد من فيلم “بغداد كافيه” لبيرسي أدلون (موقع الفيلم)
ربما كان الناقد الأميركي الراحل بعد ذلك روجر إيبرت الأكثر فصاحة والأفضل إيجازاً حين كتب عن فيلم الألماني بيرسي أدلون “بغداد كافيه” (1987) أنه فيلم “أراد بالتأكيد أن يقول أشياء حول أوروبا وأميركا، حول القديم والجديد، ولكن بخاصة حول حافة الصحراء معتبراً إياها “حافة الحلم الأميركي” مضيفاً “لكنني لست متأكداً ما هو ذلك الشيء الذي أراد أن يقوله. لكن هذا يبدو لي مريحاً لا سيما أن المخرج قد عرف كيف يجمع في ذلك المكان الصحراوي النائي في الغرب الأميركي كل تلك الشخصيات الغربية من دون أن يفصح لنا تماماً عما كانت تلك الشخصيات تفعله في ذلك المكان المعزول” على الطريق الشهير 66 الذي يقطع الولايات المتحدة من الشرق إلى الغرب. ومهما يكن، فإن ما يشبهه ولع بيرسي أدلون بالمساحات الفسيحة، لا سيما إن كانت صحراوية، إنما هو ولع مواطنه فيم فندرز بها. لكنه على عكس هذا الأخير لم يستنبط الموضوع والمكان من ثقافة عريضة وعميقة ترتبط بأميركا وتراثها، ولكن من تجربة شخصية كان عاشها بنفسه وزوجته إليانور قبل ذلك بسنوات.
ملصق الفيلم يقول جزءاً كبيراً من الحكاية (موقع الفيلم)
كل شيء تغير
كان ذلك تحديداً حين كان المقهى الصحراوي الذي تدور فيه “أحداث” الفيلم، قائماً حقاً وباسمه الذي سيضحى شهيراً بعد الفيلم، “بغداد كافيه” (علماً أن كثراً من متفرجي الفيلم العرب فوجئوا حين شاهدوه بأن ليست له أي علاقة بمديمة بغداد عاصمة العراق بل إن الحكاية كلها كانت اسماً استعاره مؤسس المقهى من كتاب ألف ليلة وليلة من دون أن يخطر في باله أنه سيجعل كثراً يعتقدون الفيلم عراقياً، أن يتحدث عن العراق!)، ذلك أن طوبوغرافية المنطقة في صحراء موهافي بين كاليفورنيا ونيفادا تغيرت، والطريق الذي كان المقهى يقع فيه حرف عن مكانه وإن ظل ثمة مقهى في المكان نفسه راح يحمل اسماً آخر. غير أن ذلك لا يهم حقاً، ما يهم هو أن المخرج الألماني وانطلاقاً من تجربة شخصية، خلق مكاناً “أسطورياً” ملأه بشخصيات غريبة وطريفة تحمل بحضورها وتصرفاتها كل ما هو غير متوقع في ذلك المكان غير المؤكد ودائماً بدوافع غامضة لكنها عابقة بالحياة.
لو ينفرط عقد الثنائي!
والتجربة الشخصية التي عاشها أدلون لم تكن على أي حال سوى التوقف في ذلك المقهى القديم الذي أحس هو وزوجته كأنه قائم في اللامكان، وتساءل وهو يبتسم عما يمكن أن يحدث لو انفرط عقد الثنائي هنا وقرر أحدهما ترك الآخر والبقاء في المقهى؟ بالنسبة إليه كانت الفكرة مجرد طرفة، لكن الطرفة ستتحول إلى ذلك الفيلم الذي سيضحى أسطورياً، أسطورة اسم المقهى. ومهما يكن من أمر، فإن المخرج سيقول متابعاً حكاية فكرة هذا الفيلم إن ما حدث يومها في الداخل أن زوجته راحت تنظر حولها متفرسة في شخصيات بدت بدورها طالعة من اللامكان وتتمتم: سيكون هؤلاء أهل من يختار من بيننا البقاء بعد انفصالنا! وهكذا، ولد ذلك الفيلم الذي من دون أن يكون صحراوياً خالصاً، ربما سيفوق في صحراويته أكثر من أي فيلم صحراوي آخر. وربما أيضاً في أميركيته أي فيلم أجنبي آخر ينظر إلى المعنى الحقيقي لأميركا: أميركا الامتداد اللامتناهي التي يتعين على تلك النظرة البرانية أن تملأه. وبعد ذلك يبقى ابتكار الحكاية، التي إن لم تكن متطابقة مع “تجربة” الزوجين أدلون فإنها تنطلق منها في الأقل. فما لدينا هنا منذ بداية الفيلم زوجان ألمانيان يقومان بتلك الرحلة الأميركية الشهيرة، ولكن يقع بينهما، ذات لحظة، شجار قد لا يهم كثيراً في مجراه، لكنه يكشف الأزمة الخالدة والخانقة للثنائي وقد كف عن أن يكون ثنائياً. وهكذا توقف المرأة جاسمين وزوجها السيارة وتقرر هي أن تنفصل عنه هنا طالبة منه بحسم أن يتابع هو رحلته عبر الصحراء. فيفعل لتدخل جاسمين إلى المقهى من دون أن تقرر حقاً ما الذي ستفعله. لكنها سرعان ما تقرر حين تجد برندا صاحبة المقهى تعيش أزمة الثنائي نفسها مع زوجها الذي بدوره يغادر المكان ما يسهل على جاسمين اتخاذ قرارها. ستبقى هنا وتشارك برندا عملها وترحب هذه بذلك.
اقرأ المزيد
- “عجيب وعجيبة” مسرحية تستلهم أجواء “ألف ليلة وليلة”
- أوسكار هوليوودي متأخر لروبنسون “تحية” لكل الأبطال المضادين في السينما الشعبية
- وهيبة باعلي “نوارة” الصحراء الجزائرية على المسرح
- العنف على شاشة هوليوود… صناعة سينمائية هاجسها الترفيه
أشخاص طالعون من الحلم
وهكذا يبدأ القسم التالي من الفيلم. القسم الذي يزور المقهى فيه أشخاص يبدو كل منهم طالعاً من حلم (هوليوودي ما؟ فنحن غير بعيدين كثيراً عن هوليوود بالمقاييس الأميركية طبعاً) من منفذ الديكورات السينمائية في استوديوهات هوليوود (جاك بالانس بشحمه ولحمه) وحافر الأوشام الشهير، وصولاً إلى الفتى دارون فلاغ ابن برندا الذي يمضي وقتاً لا بأس به وهو يعزف على البيانو، وسط ذلك الخواء الصحراوي، مقطوعات من أكثر الموسيقيين الكلاسيكيين مدينية، يوهان سيباستيان باخ. ولعل الغريب، إنما الرمزي إلى أبعد حدود “الرمزية الأوروبية” هنا، هو أن جاسمين وقد تجاوزت أزمتها الخاصة تبعاً للإيقاع الصحراوي الذي تلتصق به، تتمكن من بث حيوية، بل حتى حياة في هذا المكان لتصبح، لا سيما من خلال شغفها بالتنظيف المتواصل، وإتقانها ألعاباً وحيلاً سحرية، تصبح محور الحياة والأحاديث في المكان. بالتأكيد إذا تمكنت جاسمين بسحرها، وهي التي كانت تشعر بأن حياتها الزوجية كانت قد بدأت تتحول إلى صحراء، تمكنت من أن تبث الحياة والمرح وقدراً كبيراً من الحب والحنان في تلك الصحراء نفسها.
نظرة من الخارج
لقد كان من الواضح أن هذه النظرة الاستثنائية على صحراء أميركية قاسية وصعبة، ما كان في الإمكان أن تلقى على هذا المكان إلا إن كانت آتية من الخارج، من عالم غير صحراوي على الإطلاق. ولقد ساعد على ذلك امتلاء الفيلم بالموسيقى الأوروبية إضافة إلى أن الموسيقى “الأميركية الخالصة” والأكثر حداثة وشعبية من موسيقى باخ على أي حال، بدا من الواضح انتماؤها إلى ما تبقى من تأثيرات الهوى الأميركي الذي كانت أوروبا لا تزال تحمله من بقايا سنوات الـ60 الأميركية.
لقد بدا “بغداد كافيه” في نهاية الأمر وكأنه يعترف” بالدين الأميركي الذي يجب على الأوروبيين سداده الآن، على النسق نفسه الذي فعله فيم فندرز حين سدد ديناً للسينما الهوليوودية من خلال وثائقيه البديه “فيلم نيك” عن المخرج نيكولاس راي صاحب فيلم “جوني غيتار” الذي لا ريب أن “بغداد كافيه” يذكر به من ناحية ما، وأحد مراجعه، أي أحد مراجع فيم فندرز بالطبع، في فنه السينمائي كما أكد دائماً.
ومن كاليفورنيا إلى الجزائر
يبقى أن ثمة ما لا بد من قوله هنا وهو أن “بغداد كافيه” قد خلق حالة سينمائية، ولم ليس أيضاً، حالة موسيقية جديدة في سينما بسيطة إنما شديدة الطموح إذ ما لبثنا أن شاهدنا أفلاماً كثيرة، روائية ولكن غالباً وثائقية أيضاً، تسير على منواله. لعل من أجملها، على صعيد عربي مفاجئ على أي حال، الفيلم الجزائري “الطريق 143” الذي ظهر قبل سنوات قليلة من الآن، ليبدو وكأنه يتلمس خطى فيلم بيرسي أدلون حتى وإن كان في موضوع ومجالين آخرين تماماً. فهذا الفيلم الجزائري لئن كان وثائقياً يتتبع بظرف وقدر كبير من الحنان، كمصير سيدة جزائرية كانت من مناضلات ثورة بلادها في شبابها، وها هي اليوم تعيش في عمق الصحراء الجزائرية تدير مقهى يشكل نوعاً من الاستراحة لسائقي السيارات العابرة للصحراء وتمضي وقتها، كما تفعل في الفيلم مع فريق تصويره، وهي تروي حكايات الماضي المجيد لتشكو ليس من العمر “الذي يمر بسرعة الآن”، لكنها سرعة يخفف من غلوائها سكون الصحراء ولا نهائيتها بل حتى سحر غروبها يوماً بعد يوم، بل حتى مشكلاتها مع الإدارة والسلطات.
والحقيقة أن ثمة “أموراً ولحظات كثيرة في هذا الفيلم تذكر بـ”بغداد كافيه” كاشفة في نهاية الأمر، لمن لا يزال عاجزاً عن اكتشاف هذه البديهة أن العالم واحد والسحر واحد، والانبهار بالصحراء ووداعتها واحد سواء كنا في الصحراء الأميركية أو في الصحراء الجزائرية، فقد تتبدل المدن والتضاريس والجبال والأنهار، لكن الصحراء هي هي وعشق الصحراء هو هو.