هي أول امرأة تتبوأ كرسي الحكم في الإسلام، الملكة اليمنية التي أدارت شؤون بلادها بكفاءة وبراعة؛ فواجهت أعداءها بحكمة وشجاعة، إنها أروى الصليحية التي لا تزال شواهد اليمن تحكى قصة حكمها وحكمتها.
قيام الدولة الصليحية
في القرن الرابع الهجري عاشت اليمن وحدة كبرى في عهد الزياديين السنيين، ومر عليها الفكر العلوي في شكل معارضة سياسية تهدف إلى قيام دولة مستقلة، قبل أن ينتشر الفكر الفاطمي الإسماعيلي الحسيني في غربها، والدعوة الإسماعيلية في جنوبها، ولكن تمكن الزياديون من مواجهة هذه الأفكار وقتل رؤوس الإسماعيلية، حتى ضموا إلى بلاد اليمن جزر دهلك، التي تتبع جمهورية إريتريا اليوم.
بعد ذلك قويت شوكة الصليحيين – بدعم من الدولة الفاطمية في مصر – بزعامة علي بن محمد الصليحي الذي نجح في تأسيس للدولة الصليحية ودان بالولاء السياسي والفكري للدولة الفاطمية الإسماعيلية في مصر، واعتنق المذهب الشيعي الإسماعيلي، على الرغم من أن أباه كان قاضيًا سنيًا.
وبعد اعتناق الصليحي للدعوة الفاطمية، كتب للخليفة الفاطمي الثامن المستنصر العبيدي يعلن ولاءه له، ويدعو الناس إلى المذهب وفتح الحصون والقلاع واستولى على أغلب أرض اليمن، وساعده في ذلك الوضع القبلي لليمن، وتضاريسها الجبلية، وقد ضم مكة المكرمة إليه، وأجلى بني نجاح الحبشي، وكانوا أحباشًا مماليك لبني زياد، وتمثلت المعارضة السياسية لعلي بن محمد الصليحي بأئمة من الهادويين، ومن أبناء نجاح الحبشي الذين طردهم عن زبيد.
أروى.. طفلة يتيمة ترعاها امرأة عظيمة
هي أروى بنت أحمد بن علي بن محمد الصليحي، الحاكم الثاني للدولة الصليحية، في اليمن، وأمها الملكة رداح بنت الفارع. وأروى هي أول ملكة في التاريخ الإسلامي، وقد مارست الملك بدون انقطاع، ومهما بلغت الأحداث منذ مرض زوجها في عام 473 هجريًا حتى وفاتها في عام 530 هجريًا، أي أنها حكمت عمليًا نصف قرن، وكان يمدحها الإسماعيلية بتسميتها بلقيس الصغرى، ويستعيرون شعر المتنبي لمدحها:
ولو كان النساء كمن فقدنا * لفُضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب * ولا التذكير فخر للهلا
ولدت أروى بنت أحمد الصليحي في خراز باليمن، وفقدت والديها مبكرًا، واقتيدت إلى قصر صنعاء عند عمها، فنشأت تحت رعاية الأم الملكة، أسماء بنت شهاب، أم المكرم الصليحي أحمد بن علي، جنبًا إلى جنب مع ابن عمها المكرم، داخل قصر لم يتميز فيه الرجل عن المرأة، فالأم أسماء هي التي أدارت المملكة الصليحية إلى جانب زوجها على امتداد 15 عامًا، قبلت فيها بالحياة الظالمة والمتواضعة التي فرضها تلقين المذهب الشيعي لكل من أراد الإمامة وتحمل المسؤولية، بعدما أشركها زوجها جهرًا وعلانية في حياته، واعتبرها ندًا له، وطلب بأن تلقي الخطبة باسمها، فكانت مساجد اليمن تذكر اسمها بعد العاهل الفاطمي وزوجها: «اللهم أدم أيام الحرة التي تدير بعنايتها شؤون المؤمنين».
أنشأت الملكة أسماء تقليدًا حقيقيًا في اتحاد الزوجين في السلطة، وربت ابنها المكرم على أن الزوجة هي قوة، ومن الغباء أن نتركها تركد في ظلال الحريم، حتى تزوج المكرم ابنة عمه أروى، سنة 461 هجريًا، وعمرها 17 عامًا، في زفاف كان رمزًا للابتهاج والتفاخر، وكان مهرها إمارة عدن، وجعل منها زوجها شريكًا ورفيقًا، وكان الفرق الوحيد بين الملكة أسماء والملكة أروى هو مدة حكمهما؛ فبينما كانت مدة حكم أسماء قصيرة جدًا، انتهت بقتل زوجها وأسرها ووفاتها، فإن حكم أروى دام أكثر من نصف قرن.
امرأة استثنائية بأهداف عسكرية
بتولى أروى إمارة عدن، أخذت منذ ذلك الحين تشرف على إدارتها، وتعين حكامها، وتجني منها الضرائب. وغُمرت أروى بفرح الأمومة، فأعطت المكرم ولدين، ولكنها هي التي كانت تعتبرها صنعاء الوريثة الطبيعية للسلطة، وليس شخصًا آخر. فور وفاة الملكة أسماء، التي أمنت إدارة شؤون البلاد حتى اللحظة الأخيرة، ودفن المكرم لجثمان والدته، عهد المكرم رسميًا بجميع سلطاته إلى زوجته أروى، فقد كان هو ووالده يعترفون بها منذ صغرها بأنها الشخص الوحيد القادر على تأمين استمرارية السلالة الصليحية.
كانت أروى منشغلة بتقوية صورة السلالة الصليحية على الرغم من مقتل زعيمها الكبير علي، وشلل المكرم بعد إصابته في معركة، فكانت ملكة تعرف كيف تدير شؤون الدولة والحرب سويًا على أكمل وجه، ووصفها المؤرخون بأنها عاقلة وكاملة وملكة كفؤة لا مثيل لها.
مع ذلك تركت أروى وراءها مشاريع عمرانية أهمها: جامع الصفا الشهير، وبناء طريق سمرا، وأمدت أنحاء مملكتها بالماء حتى أعلى قمم الجبل، وسمحت بتعدد المذاهب وحرية العبادات، فقلت النزاعات داخل بلدها. وأيضًا كانت تهتم بتنشيط المراكز الثقافية والدينية؛ بمنحها العلماء والمعلمين رواتب هامة في الدولة، كما ساهمت في نشر المذهب الشيعي في آسيا، واعتبروها زعيمًا روحيًا لما قدمت لهذه الشعوب من خدمات.
الملكة أروى – المصدر موسوعة المحيط
نالت أروى اللقب الرسمي الذي حملته أسماء أولًا، وهو «الحرة»، وحملته بعدهما فقط الملكة الحرة علم، ملكة إمارة زبيد جوار صنعاء. ولم يكن انتقال السلطة إلى يد أروى مفاجأة، بل استمرارية للتقاليد المتبعة، فهي ابنة ثاني ملوك اليمن، ومن جديد راحت صنعاء تدوي بالخطبة باسم الزوجين.
وكانت أروى على عكس الملكة أسماء، تتحجب خلال جلسات العمل؛ لأنها كانت شابة وجميلة في الرابعة والثلاثين من عمرها، وزوجها المكرم معاق، واعتبر حجابها التنازل الوحيد الذي فرضته على نفسها من أجل التقاليد، فقد أرادت أن تنذر نفسها لقتل سعيد بن نجاح قاتل عمها وآسر زوجته، من أجل أن تبين لليمن ولبقية العالم الإسلامي أن السلالة الصليحية ستظل قوية رغم ما ألم برجالها.
من أجل الثأر لعمها قررت أروى نقل عاصمتها من صنعاء إلى جبالة، وهي مدينة صغيرة ملتصقة بالجبال ومحصنة، وأسكنت زوجها فيها مع كبار السلالة الصليحية، وبدأت في الإكثار من التحالفات والمفاوضات؛ من أجل تضييق الشبكة حول سعيد بن نجاح، ونشرت الشائعات الكاذبة، وشجعت سعيد على مهاجمتها بجعله يعتقد أن كل حلفائها قد تخلوا عنها، وطلبت من حلفائها بنفسها أن يذهبوا له ويكذبوا عليه، بأنهم لن يأتوا لمساعدتها، ليقوم بمهاجمتها بكل ثقة.
وبعد عام واحد في 481 هجريًا سحقت جيوش أروى القاتل في ضواحي جبالة، وعند قطع رأسه اقتيدت زوجته أم المعارك أسيرة أمام أروى، وأجبرتها السيدة على رؤية رأس زوجها مغروسًا على عمود، وتثبيته أمام حجرتها، بالضبط كما حدث مع الملكة الأم أسماء، بعد مقتل زوجها علي ثالث ملوك اليمن.
أروى تقابل الخليفة المستنصر وتتخطى الحدود
كانت أروى تمارس السلطة المادية على رؤوس الأشهاد في حياة زوجها، لكن المكرم بقي حاملًا للسلطة الروحية، فهو وريث الدعوة الإسماعيلية في اليمن، وبصفته هذه كان يستمد شرعيته من الخليفة الفاطمي الثامن في مصر. ولكن بالرغم من نجاح أروى في الإدارة والعمل العسكري، فقد عانت من كونها امرأةً؛ فقد صار عليها بعد وفاة زوجها – كأي شخص يمارس سلطة – استجداء مباركة الخليفة في القاهرة من أجل الاعتراف بشرعيته.
كان المستنصر خليفة اشتهر بسبب موجات العنف السياسي المنظمة على يده ومعه الداعية حسن الصباح، ونسب لهما بعض المؤرخين اغتيال خليفتين عباسيين هما المسترشد والراشد. رغم ذلك لم يكن من أروى بصفتها ملكة شيعية، إلا أن تنحني لإرادة الخليفة الفاطمي، الإمام المعصوم عند الشيعة، والوحيد الذي له الحق بالاعتراف بها كما فعل لأسلافها سابقًا علي والمكرم.
لم تكن ردة الخليفة المستنصر عند موت المكرم لصالح أروى، فقد اعترض على اضطلاعها بالسلطة وحدها، وأرسل الرسل لينصحوها بأن تتزوج وأن تتوارى خلف قرينها، وأن كل الأمور ستحل إذا وافقت على الزواج من سبأ بن أحمد، ابن عم زوجها، الذي أوصاه المكرم بالدعوة، كوريث للمهمة الروحية وزعيم الطائفة الإسماعيلية في اليمن، ولكن اختلفت المصادر التاريخية على هذه الوصاية.
أُجبرت أروى على التفاهم مع الخليفة المستنصر، وتختلف الروايات حول قبولها الزواج راضية أم مرغمة، وآخرون يؤكدون أن الزواج تم، ولكن كان زواجًا شكليًا، فلم ينجبا أولادًا، دام 11 عامًا، حتى وفاة سبأ عام 495 هجريًا، تجاوزت بعدها أروى أوامر الخليفة واستمرت بالحكم واستعانت بالوزراء دون واجهة.
الأيام الأخيرة
مع وفاة زوجها الثاني كانت أروى قد بلغت الخمسين من عمرها، وكانت الخلافة الفاطمية في القاهرة قد مزقتها الصراعات من أجل ولاية العهد بعد وفاة المستنصر عام 487، فلم تعد قوية كما كانت، وانقسم الإسماعيليون إلى فرعين، يتبع كل منهما أحد أبناء المستنصر؛ ما تسبب في انشقاق أدى بعد ذلك إلى التعجيل بنهاية إمبراطوريتهم. ففي هذه المرحلة اختلف الأخوان نزار والمستعلي على الخلافة، وأعلن المستعلي نفسه خليفة على القاهرة، أما خارج مصر فلم يعترف أحد بالمستعلي واعتبروه محتالًا.
مع ذلك ظلت أروى مخلصة للقاهرة، وبفضلها حصل المستعلي على اعتراف اليمن وإسماعيليي الهند الذين كانوا يخضعون لها، ولكن لم يعترف المستعلي بجميلها، واعتبرها امرأةً مسنةً وأرسل أحد رجاله، واسمه نجيب الدولة، من أجل أن يسلبها مملكتها عام 512 هجريًا، ولكنه فوجئ بشعبيتها، وتمسك اليمن بها ملكة، ووقف الجيش والشعب خلف أروى الحرة لمحاربة رسول الخليفة، وتلقت أروى دعمًا كبيرًا من معظم أمراء البلاد؛ ليرى نجيب الدولة نفسه مضطرًا للانسحاب، ويتخلى المستعلي عن مشروعه؛ لتبقى أروى في الحكم بدون رغبته حتى توفيت عام 532 هجريًا وفاة طبيعية، وشكلت وفاتها النهاية الفعلية للسلالة الصليحية.
مسجد الملكة أروى باليمن – المصدر.
وبعد وفاة السيدة أروى بنت أحمد الصليحي، وهنت الدولة الصليحية، وصار اليمن شمالًا ووسطًا وجنوبًا كل إقليم تحكمه دولة معادية للأخرى، واستمر الحال في صراع إلى أن جاء شمس الدين توران شاه بن أيوب وكان أخًا لصلاح الدين الأيوبي، وجاء من مصر في جيش سني العقيدة، عباسي الولاء ليربط اليمن بأسره، في ظل الحكم الأيوبي الذي بدأ في اليمن عام 574 هجريًا، حتى استقرت اليمن في ظل الدولة الأيوبية التي استمرت نحو نصف قرن، إلى أن استقل نائب الأيوبيين ومساعدهم المنصور عمر بن علي بن رسول بالجند، واستقل بحكم اليمن سياسيًا، مع الاعتراف بالظل الشرعي للخلفاء العباسيين في بغداد.