… بما يتجاوز ردّ الفعل على ترامب

5

محمود الريماوي

سارع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مستهل ولايته لطرح أفكاره الخاصة بشأن أزمة الشرق الأوسط، فاقترح تهجير مليوني غزّي عن أرضهم إلى “مساكن جميلة” في الأردن ومصر ودول أخرى، وأعرب، في الوقت نفسه، عن اعتقاده بأن خطة الاحتلال الإسرائيلي لضم الضفة الغربية “قد تنجح”، وتجاهل خلال ذلك عملية التنكيل بأبناء مخيمات الضفة وتجريف عدد منها، ودفع المواطنين هناك للنزوح.

لقد وعد ترامب خلال حملته الانتخابية بإرساء السلام في منطقتنا، وها هو يترجم تعهداته بخطط محدّدة، وقد لاقت هذه الخطط ما تستحقه من نعوت من كبار الساسة والمعلقين في الشرق والغرب: غير قانونية، غير أخلاقية، حماقة، الأكثر غرابة وجنونا، تفكير خارج العقل لا خارج الصندوق، من دون أن يبالي الرجل بهذه الأصداء، واصفاً خططه بأن “الجميع يحبونها”. ولعله يقصد هنا شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي الذين يتوزّعون بين يمين متطرّف ويمين أشد تطرّفاً، وممثلي الصهيونية من مجموعات دينية وشخصيات تشريعية في أميركا.

غير أن ترامب واجه أول رد فعل مباشر من زعيم عربي معني بهذه التطورات، فقد نجح ملك الأردن عبد الله الثاني، في هذا اللقاء الصعب، بإيضاح موقف بلاده المتمسّك بضرورة المباشرة بإعمار قطاع غزّة والبدء بمنح أبناء القطاع فرصة استعادة حياتهم الطبيعية على أرضهم، وإذ جرت ترجمة خاطئة لعبارة قالها الملك قبل الشروع بجولة المباحثات، غير أن الملك نجح في أجواء من الصداقة بإيضاح موقف بلاده، فالأردن على أهبة استقبال ألفي طفل غزّي مريض، للتدليل على روابط الأخوّة مع أبناء غزّة، وعلى أن هذه الإغاثة هي ما ينتظره الغزّيون لا تهجيرهم، وهو ما أدهش ترامب الذي لم تستقبل دولته العظمى جرحى من القطاع، واكتفت في عهد جو بايدن بتأييد تدمير المستشفيات هناك. وقد أوضح الملك، بالمناسبة، أن موقف بلاده جزء من موقف عربي يضم على الخصوص مصر والسعودية، وأن مصر بالذات تكاد تفرغ من إعداد خطة لإعمار القطاع دعماً لسكّانه وتمكينهم من البقاء على أرضهم الوطنية غير القابلة للمنازعة عليها. ورغم تهديدات ترامب بقطع المساعدات الأميركية عن الأردن (1.45 مليار دولار سنويا، وسوف تتوقف مستحقاتها خلال الأشهر الثلاثة الأولى من ولاية ترامب، ضمن قرار شمل دولاً أخرى)، إلا أن الموقف الأردني بقي ثابتاً في الرفض التام للخطة، وعدم التعامل معها، وهو موقف تتشارك فيه مصر مع الأردن، والبلدان ينتميان لمعسكر الاعتدال، وتربطهما معاهدتان مع إسرائيل، وقد لوّحا بأن المعاهدتين سوف تتأثران إذا ما جرى اعتماد مثل هذه الخطة الاستئصالية من الإدارة الجديدة. وقد عبّرت مصر عن ذلك ببيان صدر عن وزارة الخارجية، فيما عبّر الملك عبد الله الثاني عن ذلك في اللقاء الذي جمعه بترامب. ويُذكر هنا أن الأردن يرى أن محاولة حرمان أبناء غزّة من البقاء في وطنهم سوف تتبعه محاولة أخرى للمساس بحقوق أبناء الضفة الغربية وتهجيرهم إلى الأردن، وهو ما يكشف عنه متطرّفو حكومة بنيامين نتنياهو، وحملة التنكيل الجماعي التي تقودها هذه الحكومة. ومن المنتظر أن تعبّر عن الموقف ذاته اجتماعات تضم خمسة وزراء خارجية عرب (السعودية، مصر، الأردن، قطر، الإمارات)، في العشرين من فبراير/ شباط الجاري، ثم القمة العربية الطارئة في 27 من الشهر الجاري، ثم اجتماع وزاري لمجلس التعاون الإسلامي (57 دولة)، وسوف ترى واشنطن في نتائج الاجتماعات المرتقبة كم أن الجميع “يحبّون” خطة التطهير العرقي لغزّة.

الأردن يرى أن محاولة حرمان أبناء غزّة من البقاء في وطنهم سوف تتبعه محاولة أخرى للمساس بحقوق أبناء الضفة الغربية وتهجيرهم إلى الأردن

ومع أهمية ما تقدم، يتعيّن أن تستخلص الأطراف العربية المعنية الدروس من تجربة اجتماعات مماثلة عقدت على مدار العام الماضي، ولم تؤد إلى كبح حرب الإبادة، ولا دفعت إدارة بايدن إلى تصحيح موقفها من دعم تلك الحرب، فالمطلوب ببساطة هو الرد الجماعي على هذا التغوّل الأميركي بما يتناسب مع خطورته البالغة، بما ينطوي عليه هذا التغوّل من استخفاف متمادِ بالعرب على جميع المستويات. وهو ما يقتضي التأشير إلى أن المسار الطويل للعلاقات الأميركية العربية سوف يتأثر سلباً إذا ما تواصل انتهاك تل أبيب وواشنطن القانون الدولي، والإعراب خلال ذلك عن أن السلوك الحربي ذي الطابع الاستعماري والعنصري ينتهك اتفاقيات السلام، ويدفع إلى تعليقها، وتجميد كل أشكال التعاون والتواصل مع تل أبيب، وذلك بداية لمراجعة الأمر كله.

وللخروج من دائرة ردود الفعل، أفضل ما تفعله القمة منح خطة ترامب أقل ما تستحقه من انشغال بها، والتركيز على الدعوة إلى الشروع في عملية سلام شاملة، وهو ما يقتضيه الوضع الحالي البالغ التوتر، وبغير تبديد مزيد من الوقت، أو الاستغراق في شؤون جزئية، وبما ينسجم مع تعهدات ترامب بإرساء السلام في منطقتنا. مع إبداء الاستعداد لتنظيم فوري لمفاوضات تحظى برعاية أميركا والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، والاستجابة لهذا الأمر يمليها واقع الحال المتفجر ومقتضيات الصداقة العربية الأميركية، وحيث الحاجة متبادلة لهذه الصداقة التي تصب في مصلحة الطرفين لا مصلحة طرف واحد، وذلك جنباً إلى جنب مع طي صفحة الحرب على غزّة، وإحالة أمر اليوم التالي في القطاع وإعادة إعماره إلى الجانب العربي، ومن ضمنه الجانب الفلسطيني، مع حمل واشنطن وتل أبيب على تحمّل الجزء الأكبر من كلفة إعادة بناء ما هدمته حربهما، ومع الضرورة الواجبة والعاجلة لوقف الحرب على شمال الضفة الغربية المحتلة.

إنه لمن الصحيح والدقيق تماماً أن خطراً وجودياً يتهدّد العرب في هذه الآونة، وبالذات في المشرق، وأن سياسة الموادعة والمسالمة من الطرف العربي لم تؤد سوى إلى انفلات الغرائز العنصرية لدى الطرف الآخر، وعدم التورّع عن شنّ حرب إبادة، وتهديد دول عربية مجاورة، وانتهاك حدودها والتموضع على أراضيها، وهو ما يُنذر بتحوّل المنطقة العربية إلى رقعة مستباحة للهيمنة الإسرائيلية بدعم من إدارة ترامب.

التعليقات معطلة.