أ.د. محمد الدعمي
”تمادى العقل الأميركي في خيلائه تحت ضغط هذا الشعور، درجة تحوله مسببا لنظرة دونية لكل ما يمكن أن ينتج عن الدول والكيانات الكبيرة الموجودة في “العالم القديم”: أي في ذلك العالم حيث تكون كل الأشياء من إيحاء الماضي، وليس من وحي “العالم الشجاع” حيث يفكر “الإنسان الألفي الجديد”، أي الأميركي، على نحو طلائعي لا يمكن أن يقارن بطرائق تفكير الإنسان في سواه من قارات العالم القديم.”
ربما كمن الخيلاء الذي شاب طرائق تفكير العقل الأميركي منذ مدة طويلة على “أسطورة العالم الجديد”، أي على ذلك الشعور الوسواسي بالتفوق على بقية دول العالم بسبب الثروات والطبيعة الجغرافية الوفيرة المنعزلة التي حباها الله للولايات المتحدة الأميركية، بوصفها بوابة “عالم جديد” مختلف عن “العالم القديم”.
هذا هو الأساس الثقافي والفكري المستزرع في قعر العقل الأميركي والذي جعله يشعر بالتميز على دول العالم، بل حتى على مكافئه الأوروبي الذي خدم مصدرا أساسا للثقافة وللجذر السكاني للأميركان البيض، بطبيعة الحال. وهذا، كذلك، هو مكمن الشعور المتواصل بأن كل ما يحدث في أميركا تفكيرا وإنجازا إنما هو شيء جديد وطلائعي لا يمكن أن يحدث إلا في بيئة “الحرية” و”الديمقراطية”، “الشجاعة” و”الأقدام” الأميركية.
والحق، فقد تمادى العقل الأميركي في خيلائه تحت ضغط هذا الشعور، درجة تحوله مسببا لنظرة دونية لكل ما يمكن أن ينتج عن الدول والكيانات الكبيرة الموجودة في “العالم القديم”: أي في ذلك العالم حيث تكون كل الأشياء من إيحاء الماضي، وليس من وحي “العالم الشجاع” حيث يفكر “الإنسان الألفي الجديد”، أي الأميركي، على نحو طلائعي لا يمكن أن يقارن بطرائق تفكير الإنسان في سواه من قارات العالم القديم، هذا هو منبع شعارات شائعة هناك من نوع: “لنفكر على نحو ملحمي”. ليس هذا فقط هو منبع الشعور بالتفوق، ذلك أن العقل الأميركي تراوده أحاسيس غامرة تفيد بأنه الخلاصة النهائية لحركة التاريخ (على نحو خفي وخيطي) أي على نحو لا يمكن أن يرتد إلى الماضي أو يكرره (بشكل دوري) كما حدث للإمبراطوريات التاريخية الكبرى التي غالبا ما كانت تستجيب لنمط تطور تاريخي دوري متكرر (الولادة، الذروة، الانحطاط)، إذ يمكن أن يختزل هذا النمط التطوري على نحو ثلاث حقب: (1) البداية (2) الوسط، ثم (3) النهاية. ربما كان هذا هو أهم أسباب الشعور الملحاح بأن أميركا لن تشهد ما شهدته الإمبراطوريات والكينونات الكبرى عبر التاريخ، بافتراض تقدمها وتطورها على نحو تراكمي لا نهائي، وليس على نحو يستجيب للحركة الدورية في التاريخ. وإذا كان هناك ثمة “دورية”، فلا بد من الإذعان لها، لأنها تكون دورية من النوع الذي قدمته الولايات المتحدة يوم عبرت المحيطات والقارات كي تغزو “بلاد الرافدين” التي تعد “مهد الحضارات الأولى”، حيث ولد الحرف الأول والقرية الأولى، الزراعة وحيث تشكلت التجمعات البشرية الأولى (دويلات المدن) بعد انتقال الإنسان من طور جمع القوت البدائي، إلى طور إنتاج القوت (من الصيد والجمع، إلى الزراعة والصناعة)، وبهذا تقلب رحلة مكتشف أميركا “كريستوفر كولومبس” رأسا على عقب.
كمنت الفكرة المفيدة في قلب الحركة الدورية للتاريخ من العالم الجديد (على نحو معاكس) إلى العالم القديم، حيث “تقمص” الإنسان الأميركي المعاصر شخصية كولومبس (الإنسان الأميركي الأول) كي يستكشف حضارات العالم القديم على سواحل أنهار بابل وسومر، أكد وآشور.