بشير عبدالفتاح
ما إن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مطلع الشهر الجاري عن تطوير صاروخ نووي ذكي من طراز «سارمات» ويزن أكثر من 200 طن، وقادر على حمل رؤوس نووية، ويتفادى أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية، في ما يشبه الإعلان عن توازن قوى عالمي جديد، حتى أعاد إلى الأذهان إعلان الزعيم السوفياتي السابق نيكيتا خروتشوف في أيار (مايو) 1957 النجاح في إنتاج صاروخ عابر للقارات قادر على حمل رؤوس نووية، ما أثار الفزع في أروقة الإدارة الأميركية وحضها على إشعال سباق تسلح حامي الوطيس.
فلقد أفضى التطور التقني العسكري السوفياتي المذهل في حينه، والذي تمثل في مباغتة الأميركيين بإجراء أول تفجير تجريبي لقنبلة نووية نهاية آب (أغسطس) عام 1949، ثم تطوير صاروخ نووي طويل المدى عام 1957، إلى ترسيخ دعائم الثنائية القطبية في النظام الدولي حينئذ، وتأجيج سباق تسلح صاروخي ونووي محموم، بعدما دفع واشنطن لمواكبة التطور السوفياتي، بشروع الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي في تطوير تقنية الصواريخ الأميركية لتضييق الفجوة التي كانت تهدد أمن الولايات المتحدة وفق تصوره وقتها، الأمر الذي فجر سباق تسلح صاروخي عارم، برزت تجلياته خلال أزمة كوبا عام 1962، حينما زوَد السوفيات كوبا بصواريخ نووية ما تسبّب في وضع العالم على شفا مواجهة نووية لولا انتهاء الأزمة في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1962 بقرار من خروتشوف بإعادة الصواريخ النووية إلى الأراضي السوفياتية مقابل سحب الصواريخ النووية الأميركية من تركيا مع اعتراف الولايات المتحدة بكوبا كدولة اشتراكية. وفي ثمانينات القرن الماضي، شهد سباق التسلح النووي تطوراً نوعياً مع نجاح الاتحاد السوفياتي في تسليح غواصاته بصواريخ نووية بعيدة المدى.
واليوم، يطوى إعلان بوتين عن صواريخه وأسلحته النوعية الجديدة بين ثناياه نذر إشعال سباق تسلح جديد أشد ضراوة مع واشنطن، يأمل بأن يؤشر بدوره لعودة النظام العالمي ثنائي القطبية. وبينما كان سباق التسلح قبل ستة عقود ينصرف إلى الصواريخ الباليستية الليزرية والأسلحة النووية الاستراتيجية، فإنه يتجه اليوم إلى الصواريخ الذكية بعيدة المدى التي تدار بالطاقة النووية والأسلحة النووية التكتيكية، والتي تعاظمت أهميتها في الاستراتيجية العالمية مع تهافت كل من موسكو وواشنطن لتطوير مثل هذه المنظومات التسليحية المتقدمة والقابلة للاستخدام الفعلي وليس لمجرد الردع. وربما يشكل مجيء ترامب لرئاسة الولايات المتحدة في كانون الثاني (يناير) 2016، نذيراً بتقويض مختلف الأسس القانونية والركائز السياسية للنظام الدولي الذي ترسخت دعائمه عقب الحرب الكونية الثانية. فعلى الصعيد السياسي، انسحب ترامب من اليونيسكو، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، واعتبر جيمس كلابر، الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات الأميركية «CIA» أن روسيا تشكل خطراً وجودياً على الولايات المتحدة. وعلى الصعيد الاقتصادي، وبعدما انسحب من اتفاق باريس للمناخ العام الماضي، وبدأ يعيد النظر في اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، فتح ترامب، الذي تعهد خلال حملته الانتخابية الرئاسية بإحياء صناعات الفحم والصلب الأميركية، الباب لإشعال حرب تجارية بين أميركا والعالم بعدما فرض تعريفات جمركية قدرها 25 في المئة على واردات الصلب و10 في المئة على واردات الألمنيوم بذريعة حماية صناعتهما الوطنية في بلاده، خصوصاً بعدما أعلن، ويلبر روس وزير التجارة الأميركي، أن تنامي واردات واشنطن من الحديد والألمنيوم خلال الأعوام الأخيرة يهدد الأمن القومي. وبعدما ندد بخلل في الميزان التجاري الأميركي بلغ 800 بليون دولار، كما انتقد الاتفاقيات والسياسات التجارية الغبية التي اعتمدها أسلافه، هدد ترامب بفرض رسوم جمركية على واردات السيارات الأوروبية في حال رد الاتحاد الأوروبي على قراره فرض ضرائب على الحديد والألمنيوم. أما على الصعيد الاستراتيجي، فقد رفض ترامب، الذي يتهمه بوتين بالسعي إلى تفكيك روسيا، انضمام بلاده إلى المعاهدة الجديدة التي حاولت الجمعية العامة للأمم المتحدة إقرارها في أيلول (سبتمبر) الماضي للحد من انتشار الأسلحة النووية عالمياً. وفي ما عمدت التفاهمات الدولية الخاصة بالسلاح النووي إلى رفع العتبة الخاصة باستخدامه عبر وضع قيود صارمة بهذا الصدد، أبى ترامب إلا خرق هذا النهج من خلال خفض تلك العتبة وتيسير استخدام أسلحة نووية تكتيكية يتم تطويرها ونشرها في أوروبا، رداً على أي هجوم مؤثر، وإن لم يكن نووياً. ففي مؤتمر نزع السلاح الأخير في جنيف نهاية شباط (فبراير) الماضي، اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف واشنطن بـعرقلة نزع السلاح النووي عالمياً عبر خطوتين: تتمثل أولاهما في تغيير واشنطن استراتيجيتها النووية عبر الشروع في تحديث ترسانتها النووية وتطوير أسلحة نووية تكتيكية قابلة للاستخدام، توخياً لخفض عتبة استخدام الأسلحة النووية. أما ثانيتهما، فتتجلى في استراتيجية «المهمات النووية المشتركة»، التي تنوي واشنطن خلالها نصب أسلحة نووية تكتيكية في دول أوروبية أطلسية غير نووية توطئة لاستخدامها ضد روسيا مستقبلاً.
من جانبها، وبعدما التزمت بتخزين ونشر أسلحتها النووية التكتيكية والاستراتيجية داخل أراضيها، عمدت موسكو إلى نشر منظومات صواريخ «إسكندر» المتنقلة طويلة المدى والقادرة على حمل رؤوس نووية، والتي تعد النسخة المطورة من صواريخ سكود، ويرمز لها أطلسياً باسم «أس أس-26 ستون»، في منطقة كالينينغراد على بحر البلطيق، رداً على تعزيز الولايات المتحدة تموضعها الاستراتيجي في تلك المنطقة الحساسة، وهو الأمر الذي اعتبرته واشنطن تطوراً مستفزاً ومزعزعاً للاستقرار.
وبينما يتطلع بوتين إلى إظهار روسيا كدولة عظمى لم تفت في عضدها مخططات التطويق والحصار الأميركية أو مساعي تفكيكها من خلال «حرب النجوم الجديدة» المتمثلة في تنصل واشنطن من معاهدات حظر انتشار الصواريخ الباليستية وتقليص الأسلحة الاستراتيجية، توسع الحلف الأطلسي شرقاً، نشر منظومات دفاعية صاروخية وأسلحة نووية تكتيكية على الحدود الروسية، إذا به يستدرج، عن قصد أو بغيره، إلى سباق تسلح يوشك أن يستنزف اقتصاد بلاده ويهدد استقرارها على غرار ما جرى إبان حرب النجوم خلال ثمانينات القرن الماضي. فعلى رغم تأكيد بوتين أنه لن يسمح بانزلاق بلاده إلى سباقات من هذا النوع، إذا به يعترف في خطابه الأخير أمام البرلمان بأن التأخر في مجال التكنولوجيا يشكل أبرز تهديد لروسيا كما يعد عدوها الأول، ومن ثم لم يتورع عن التعهد بالعمل على تجاوز تلك الفجوة التكنولوجية. يأتي هذا في الوقت الذي لم يتجاوز معدل النمو السنوي في روسيا 1.5 في المئة عام 2017، فيما كان معدل النمو الاقتصادي العالمي للسنة نفسه 3.6 في المئة، بحسب صندوق النقد الدولي، ما يعني أن أية مجازفة بالاستثمار في سباق النفوذ العالمي ستتأتي على حساب رخاء الشعب الروسي وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي، مثلما كانت الحال إبان حقبة الاتحاد السوفياتي السابق.
وبمجرد إعلان إدارة ترامب تخصيص أكثر من 700 بليون دولار كموازنة دفاعية لعام 2019، قرر بوتين تخصيص 19 تريليون روبل (قرابة 357 بليون دولار) لبرنامج موسكو الدفاعي الجديد للفترة ما بين 2027-2018. وفيما يعد هذا الرقم متواضعاً مقارنة بموازنة واشنطن الدفاعية، إلا أنه مرهق للاقتصاد الروسي المثخن بالعقوبات والأزمات. فبينما أطلق الكرملين أول برنامج حكومي للتسلح والصناعات الدفاعية لمجابهة الولايات المتحدة (2011-2020)، لم يتسن استكماله بسبب انخفاض أسعار النفط بالتوازي مع ارتباك الاقتصاد الروسي، فمن بين 8 غواصات نووية من طراز «بوري» خطط لإنشائها، لم ينجز سوى 4 فقط، وبينما كانت تتطلع روسيا إلى تزويد 38 فرقة عسكرية من جيشها بمنظومات صاروخية من طراز «أس 500»، لم يتم حتى الآن البدء بالإنتاج التسلسلي لهذه المنظومات. وفي عام 2012، اعترف ألكسندر سوخوركوف، نائب وزير الدفاع الروسي، بأنه ليس بمقدور بلاده إلا الوفاء بنسبة 40 في المئة فقط من الالتزامات الإلكترونية التي تحتاجها صناعاتها الدفاعية. وبعد تخفيضها مراراً، أجّل الكرملين مراراً الإعلان عن الموازنة الدفاعية منذ عام 2015 بسبب الأزمة الاقتصادية الناجمة عن التقلبات في أسواق الطاقة، علاوة على الخلافات بين الوزارات المعنية بالشؤون الاقتصادية من جهة ووزارة الدفاع على الجهة الأخرى.