بوتين يحاول إعادة مجد السوفيت… ولكن بصورة أخرى

4

 

 

في أكثر من مناسبة، بدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كمن يسعى إلى إعادة صياغة التاريخ على مقاس الحاضر. ليس فقط استعادة نفوذ روسيا كقوة عالمية، بل استعادة «المجد السوفيتي» الذي بدا للعديد من المراقبين وكأنه يضمّد جراح الماضي ويعيد ترتيب أولويات الدولة الروسية على أسس جديدة، مختلفة عن الاتحاد السوفيتي، لكنها تحمل نفس الرؤية المركزية للسلطة والنفوذ.

الروس يواجهون اليوم واقعًا داخليًا معقدًا: اقتصاد متراجع نسبيًا، عزلة دولية متصاعدة، وتحديات اجتماعية وسياسية لم تعد قابلة للإخفاء كما في عقود سابقة. في هذا السياق، يظهر بوتين كمهندس استراتيجي لا يكتفي بالرمزية التاريخية، بل يضيف إليها أبعادًا حديثة: استثمار في القوة العسكرية، تحالفات سياسية محدودة، واستغلال الموارد الاقتصادية كأداة ضغط دولي.

إن ما يميز محاولة بوتين عن سياسات الاتحاد السوفيتي السابقة هو أنها لا تقوم على إيديولوجيا شيوعية صافية، بل على مزيج من الوطنية الروسية، الأمن القومي، واستغلال النفوذ الدولي لتحقيق مصالح استراتيجية محددة. فالأهداف لم تعد نشر النظام السوفيتي أو القيم الشيوعية، بل تحقيق مكانة روسيا كقوة قادرة على إعادة ترتيب المعادلات الدولية، وإعادة تعريف مكانها بين القوى الكبرى.

في أوكرانيا، على سبيل المثال، لا يكمن الصراع فقط في الأراضي أو الجغرافيا، بل في الرسالة الرمزية: روسيا لم تعد تقبل أن يُعاد تشكيل أوروبا الشرقية من دون اعتبار موقعها الجيوسياسي. وفي سوريا، يظهر النفوذ الروسي ليس فقط كحارس لمصالح موسكو، بل كأداة لإعادة التأكيد على أن روسيا ما زالت لاعبًا محوريًا في الشرق الأوسط، قادرة على إحداث التوازن وفق مصالحها.

لكن التحدي الأكبر لبوتين يبقى داخليًا. فمحاولاته لاستعادة «المجد» تصطدم بشباب روسي أكثر وعيًا، وبأجيال لم تعش الاتحاد السوفيتي، وباقتصاد متأثر بالعقوبات والعزلة الدولية. هنا يظهر الفرق بين الرمزية التاريخية والسياسة الواقعية: العودة إلى مجد السوفيت ليست ممكنة كما كانت، ولذا يضطر بوتين لصياغة نسخة معدلة، أكثر مرونة، وأكثر قدرة على التكيف مع عالم متعدد الأقطاب.

في النهاية، ما يحاول بوتين فعله ليس استنساخ الماضي، بل إعادة تعريف روسيا بطريقة تجعلها محورًا لا يمكن تجاهله. إنها محاولة لإعادة الاعتبار لسياسة القوة الروسية، مع الحفاظ على مظهر الاستقرار الداخلي والرمزية التاريخية التي تحرك الجمهور الروسي. لكن السؤال الذي يطرحه المحللون اليوم: هل ستنجح هذه النسخة المعدلة من «المجد السوفيتي» في مواجهة الواقع الدولي المعقد والمتغير؟ أم أن روسيا ستكتشف أن التاريخ لا يمكن إعادته إلا بشروط جديدة؟

التعليقات معطلة.