بوتين يفوز بولاية خامسة… انتصار التّناقضات

1

الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين يتحدّث إلى الإعلام يوم الاثنين بعد انتهاء الانتخابات الرئاسيّة التي فاز فيها بولاية خامسة (أ ب)

كأنّ الأشهر التسعة الماضية كانت دهراً. سرعةُ انقلاب الأحداث على خطّ الصدع الروسيّ-الأوكرانيّ تبرّر هذا التصوّر. في حزيران (يونيو) 2023، حبَسَ العالم أنفاسه وهو يشاهد أرتال “فاغنر” العسكريّة تتوجّه من روستوف أون دون نحو العاصمة الروسيّة. ترافقَ حبس الأنفاس مع سؤال ملحّ: أين هي المؤسّسات الأمنيّة المولجة الدفاع عن الكرملين؟

كان الخوف من تمرّد “فاغنر” كبيراً حتى في العاصمة الأميركيّة بسبب إمكانيّة فقدان الاستقرار في دولة نوويّة كبيرة. لكن لم يطل الوقت قبل تبدّد المخاوف. “فاغنر” أوقفت هجومها فجأة، ثمّ قُتل زعيمها يفجيني بريغوجين بـ”حادث” تحطّم طائرته بعد شهرين. لاحقاً، انتهى الهجوم الأوكرانيّ المضادّ بالفشل.

“بوتين في مزاج رائع”

بعد ذلك، شنّت “حماس” هجومها على الإسرائيليّين في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، خاطفةً الضوء والجهد الدبلوماسيّ من أوكرانيا، قبل أن يحتجز جمهوريّو الكونغرس المساعدات الماليّة المخصّصة لكييف. هاجمت روسيا مدينة أفديفكا المحصّنة في تشرين الأوّل أيضاً واستولت عليها في شباط (فبراير). أيّ معارضة روسيّة وازنة (للحرب أو لحكم الرئيس فلاديمير بوتين) انتهت بوفاة أبرز وجوهها أليكسي نافالني في ظروف غامضة وباستبعاد المرشّح بوريس نادجدين من الانتخابات الرئاسيّة التي شهدتها روسيا بين 15 و17 آذار (مارس). يمكن القول إنّ الأشهر التسعة انتهت بأفضل طريقة ممكنة لبوتين؛ توّجها بفوز متوقّع بولاية خامسة، وفي ظروف أفضل نسبياً ممّا كانت عليه بعد إطلاق “العمليّة العسكريّة الخاصّة” ضدّ أوكرانيا. إقالة الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي قائد قوّاته الجنرال فاليري زالوجني مثّلت هديّة إضافيّة.

مؤلّف كتاب “بَين نارَين: الحقيقة والطموح والتسوية في روسيا بوتين” جوشوا يافا استعرض الكثير من المفارقات الاجتماعيّة والسياسيّة الروسيّة في مجلّة “نيويوركر“. هو لاحظ كيف أنّ كثراً من المتردّدين الروس في دعم الحرب بدايةً، أصبحوا أكثر موالاةً لها مع مرور الوقت. لم تكن هذه العيّنة آتية من المناطق الفقيرة التي استفادت من الصناعة الحربيّة أو الانخراط في المعارك وحسب، بل حتى من أبناء الطبقة الوسطى. وبعدما كان قلقاً من انهيار الجبهة، أصبح “بوتين في مزاج رائع”، على ما قاله عضوٌ من النخبة السياسيّة الروسيّة للصحافيّ نفسه.

(بوتين متحدّثاً إلى الإعلاميين بعد الانتخابات – أب)

وبطبيعة الحال، هناك أيضاً ذاك المزاج القاتم نوعاً ما في الغرب بسبب “فشل” العقوبات على روسيا. لفتت مجلّة “إيكونوميست” البريطانيّة مؤخّراً إلى أنّ الاقتصاد الروسيّ متّجه نحو “الهبوط السّلس” بعد انخفاض التضخّم تدريجياً بسبب سياسات وزارة الخزانة الروسيّة. حتى نموّ الناتج القوميّ الروسيّ هذه السنة بـ1.7 في المئة وحسب يمثّل الطيف “المتشائم جداً” من التوقّعات حيال أداء الاقتصاد الروسيّ. وعلى الصعيد السياسيّ، قد تكون الأنباء أفضل حتى مع ارتفاع حظوظ دونالد ترامب بالعودة إلى البيت الأبيض سنة 2025. تهيّئ جميع الظروف المسرح السياسيّ لولاية رئاسيّة خامسة مستقرّة في روسيا. لكنّ الواقع يغدو أكثر تعقيداً عند النظر في تفاصيله.

ما يصعب تجاهله

لطالما كانت الولاية الرئاسيّة الخامسة مضمونة لبوتين. لكنّ إحدى الإشكاليّات تمثّلت نظرياً على الأقلّ في تحديد رقم الفوز. تحتّم على هذا الرقم أن يكون كبيراً بما يكفي لتجسيد فكرة أنّ بوتين وحده يمثّل الأمّة الروسيّة لكن من دون المبالغة إلى حدّ يجرّد الاستحقاق من رصانته أو يعيد مشهد الاحتجاجات على “تزوير” انتخابات 2012. وبرزت أيضاً إشكاليّة تحديد نسبة الاقتراع. تعني الانتخابات المحسومة انخفاضاً تلقائياً في الحماسة للتصويت. لكنّ انخفاض نسبة الاقتراع يمكن أن يُقرأ كاعتراض خفيّ على أداء بوتين في الحكم أو حتى على الحرب. تحدّث الخبير في الشؤون الروسيّة في “كلّيّة لندن الجامعيّة” مارك غاليوتي عن شائعات طويلة المدى مفادها أنّ الإدارة الرئاسيّة قبلت بنسبتي إقبال واقتراع تبلغان 70 في المئة بالحدّ الأدنى.

(من المشهد الانتخابي في روسيا – أب)

حقّق بوتين نتيجة أفضل بكثير. تجاوزت نسبة الأصوات المؤيّدة له حاجز 87 في المئة وهي نسبة مذهلة حتى بمعايير الانتخابات الرئاسيّة الروسيّة. في 2012، بالكاد تجاوزت نسبة أصوات المقترعين لبوتين 63 في المئة قبل أن ترتفع سنة 2018 إلى 77.5 في المئة. أسئلة كثيرة طُرحت وستطرح بشأن هذه النتيجة من بينها ما إذا كان بوتين مهتماً حتى بإظهار هذا الغشاء من التنافسيّة في الانتخابات الروسيّة. ربّما بعد نهاية نافالني وقدراته التجييشيّة، تغيّرت الحسابات في الكرملين: لم يعد أحد قادراً على تنظيم حركة اعتراضيّة كبيرة داخل روسيا كما حدث منذ ما يزيد عن العقد. علاوة على ذلك، يبدو أنّ الكرملين أراد إيصال رسالة عن ازدياد شعبيّة بوتين بعد غزو أوكرانيا وأنّ الروس موافقون على الحرب ومستعدّون لها لفترة طويلة. وبلغت نسبة الاقتراع نحو 77.5 في المئة، وهو رقم قياسيّ آخر (أكثر بـ10 نقاط من الانتخابات الماضية).

في جميع الأحوال، يبقى أنّ ما لم تتمكّن روسيا من ضمانه هو أجواء انتخابيّة هادئة في الداخل والخارج. نظّم المعارضون الروس في دول الانتشار طوابير اعتراضيّة أمام المقارّ الدبلوماسيّة الروسيّة تحت عنوان “الظهيرة ضدّ بوتين”، فيما خاضت تنظيمات عسكريّة روسيّة بدعم من أوكرانيا توغّلات لأيّام عدّة في منطقة بلغورود الروسيّة. أتى ذلك على وقع استهداف مسيّرات أوكرانيّة لمنشآت نفطيّة في البلاد. تبيّن أنّ التفوّق العسكريّ في أوكرانيا لا يضمن أمن المقاطعات الروسيّة المتاخمة للحرب. وبرز أيضاً ناخبون ممتعضون وهم يحرقون أقلام الاقتراع أو برمون عليها طلاء ملوّناً. تمّ تسجيل حوادث كهذه في أكثر من عشرين منطقة روسيّة

من ناحية أخرى، حذّر خبراء اقتصاديّون من استعجال تلمّس مفعول العقوبات. في مقالة نشرتها مجلّة “فورين أفيرز” في كانون الثاني (يناير) الماضي، لفتت المستشارة السابقة للبنك المركزيّ الروسيّ والباحثة الحاليّة في “كارنيغي” ألكسندرا بروكوبنكو إلى أنّ على موسكو تحقيق ثلاثة أهداف بطريقة متزامنة: الحفاظ على مستوى معيشة الروس وعلى الاستقرار الماكرو-اقتصاديّ وعلى مواصلة الإنفاق العسكريّ معاً. لكنّ الهدف الثالث سيقوّض الهدفين الأوّلين بفعل التضخّم كما كتبت. وهي تشير أيضاً إلى أنّ تطوّرات خارج روسيا قد تترك أثراً سلبياً على قدراتها الحربيّة، كما هي الحال مثلاً مع تباطؤ محتمل للاقتصاد الصينيّ.

وإذا كانت بروكوبنكو قد ذكرت أنّ المنعطف في الاقتصاد الروسيّ قد يظهر أواخر 2024 تقريباً، فإنّ تقريراً لـ”المعهد الملكيّ للخدمات المتحدة” أشار إلى أنّ قدرات روسيا الحربيّة ستبلغ ذروتها أيضاً في الوقت نفسه تقريباً. سيواجه تجديد وإصلاح مخزون المركبات صعوبات في 2025 قبل أن ينتهي المخزون بشكل كبير سنة 2026. وعلى الرّغم من الدعم العسكريّ الآتي من الخارج، من المتوقّع أن تنتج روسيا 3 ملايين قذيفة من كلّ الأنواع سنة 2025، علماً أنّ ما تحتاج إليه، فقط من عياري 152 ملم و122 ملم، 5.6 ملايين قذيفة لكسب المزيد من الأراضي السنة المقبلة. وبحلول سنة 2026، ستبدأ قوّة روسيا العسكريّة بالتآكل إذا واصل الغرب دعم أوكرانيا، ما يفقد موسكو القدرة على إخضاع كييف بحسب التقرير نفسه.

صحيحٌ أنّ استمرار الدعم الغربيّ ليس مؤكّداً، لكن من غير المرجّح في الوقت نفسه أن يتوقّف نهائياً. حتى مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض وقطعه المساعدات عن كييف، ثمّة أدلّة واضحة إلى أنّ أوروبا تحاول جاهدة ملء الفراغ الأميركيّ على مستوى تحويل الدعم إلى كييف. والتصعيد الآتي من فرنسا لجهة احتمال إرسال قوّات إلى أوكرانيا كان مفاجئاً إلى حدّ ما بالنظر إلى تردّد الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون في اتّخاذ موقف متشدّد تجاه روسيا.

واللافت للنظر أيضاً أنّ ألمانيا ذات النزعة المسالمة هي ثاني أكبر مورّد للأسلحة إلى أوكرانيا، وأنّ فرنسا تزيد من دعمها العسكريّ لها بعد فترة من الأداء المتواضع نسبياً في هذا المجال. حتى أنّ دولاً مثل تشيكيا تبحث في أسواق خارجيّة عن قذائف مدفعيّة لمواصلة تسليح كييف. إذاً، بالرغم من كلّ الحديث عن التفوّق الروسيّ في الميدان الأوكرانيّ، وهو حديث صحيح لغاية الآن، لا يزال من المبكر جداً إعلان انتصار موسكو في الحرب.

ماذا عن حكم بوتين في السنوات المقبلة؟

بصرف النظر عن أيّ تشكيك بأرقام الانتخابات الأخيرة، يستمرّ العقد الاجتماعيّ الضمنيّ الذي وقّعه بوتين مع المجتمع الروسيّ بداية الألفيّة الحاليّة ساري المفعول: انسحاب الروس من النشاط السياسيّ المعارض مقابل ضمان الاستقرار والمستوى المعيشيّ المقبول (أفضل من التسعينات بالحدّ الأدنى). برزت استثناءات خجولة لذلك عندما تقدّم الروس بطوابير طويلة لإلقاء التحيّة على روح نافالني بالقرب من النصب التذكاريّة الرمزيّة التي أقيمت تخليداً لذكراه. كانت تلك التجمّعات وجبال الورود التي ألقيت عند ضريحه حركة اعتراضيّة جريئة.

لكن كما قال الفيلسوف السياسيّ الروسيّ في جامعة برينستون غريغ يودين في حديثه إلى يافا، الكاتب في “نيويوركر”، لطالما تمثّلت المشكلة في كيفيّة استثمار هذه الجرأة سياسياً. وقال إنّ الروس سيسرّون جداً بوقف الحرب غداً، لكن إذا قال لهم بوتين إنّه مضطرّ لدخول حرب نوويّة مع الغرب فسيقبلون بذلك صامتين. وهذا ما يعني مجدّداً غياب أيّ حركة شعبيّة جادّة قادرة على حشد اعتراض منظّم، ناهيكم عن تغيير الحكم في روسيا.

(أرملة أليكسي نافالني، يوليا نافالنايا وهي عائدة من وقفة احتجاجية أمام السفارة الروسيّة في برلين – أب)

غير أنّ استقرار أيّ حكم لا يقوم فقط على رضا المحكومين بل أيضاً على رضا أدوات الحكم وفي مقدّمتها الأجهزة الأمنيّة. يعيد ذلك المراقبين إلى تمرّد بريغوجين كما إلى اقتحام شنّه في تشرين الأوّل الماضي حشد كبير لمطار في داغستان بحثاً عن إسرائيليّين قادمين على متن طائرة، من دون ظهور قوى أمنيّة لتفرقة المهاجمين إلّا بعد ساعات. يقول النخبويّ السياسيّ نفسه ليافا: “كيف يمكنك ادّعاء السيطرة الكاملة ومع ذلك تبدو عاجزاً إلى هذا الحدّ”.

من جهته، يشير غاليوتي، الخبير في الشأن الروسيّ من كلّيّة لندن الجامعيّة، إلى إدخال بوتين مؤخّراً عدداً من الوجوه الشابّة في البيروقراطيّة الروسيّة الحاكمة. يعني ذلك أنّ بوتين لا يخطّط لمغادرة مبكرة للساحة السياسيّة بل يبيّن بشكل محتمل أنّه يريد ولاية أخرى بعد السنوات الست المقبلة. لكنّه يضيف أنّ الإرث الأخير لبوتين، بخاصّة بعد نهاية الحرب، سيكون نوعاً من دولة أمنيّة متآكلة شبيهة بالعقود الأخيرة التي طبعت حكم الاتّحاد السوفياتيّ.

لا يشبه هذا التقييم كثيراً تحليل أستاذ التاريخ في الجامعة الكاثوليكيّة الأميركيّة مايكل كيمدج والباحثة في جامعة جورج واشنطن ماريا ليبمان. على الأقلّ، ليس عند الأخذ بالاعتبار مراحل مختلفة من الحقبة السوفياتيّة. فبالرغم من الخضّات في الحكم بعد وفاة ستالين وإبّان إقالة خروتشيف، لم يتفكّك الاتّحاد السوفياتيّ أو يواجه حرباً أهليّة أو حتى ينسحب من الحرب الباردة. يكتب المحلّلان في “فورين أفيرز” أنّه إذا تفادى القادة الروس صراعاً داخليّاً بعد رحيل بوتين عن الساحة السياسيّة فلن يرغبوا بالتخلّي عن بُنى بوتين الآيديولوجيّة، ما يعني أنّ البوتينيّة قد تستمرّ إلى ما بعد رحيل بوتين نفسه عن المسرح السياسيّ.

يمكن فهم سبب ترجيح استقرار حكم بوتين في الولاية المقبلة. لقد تكيّفت النخب مع الواقع الجديد ومن ضمنه الخسائر الماليّة بفعل العقوبات. بالتالي، ومع استبعاد انهيار اقتصاديّ مفاجئ في السنوات المقبلة، وهو أمر محتمل لكن غير مرجّح، تبدو آفاق ثبات الحكم في موسكو هي المهيمنة. ينطبق الأمر نفسه على انهيار القوّات الروسيّة على الجبهة، وهو احتمال ضئيل آخر على ما بيّنته سنة 2023.

وثمّة عامل ثالث أشبه بقانون طبيعيّ يذكره كايسي ميشال في مجلّة “بوليتيكو“. إنّ انتزاع السلطة من حاكم مطلق كبوتين سيتطلّب دوماً طاقة أكبر بالمقارنة مع الطاقة المطلوبة من الحاكم كي يقمع محاولة كهذه. لذلك، رأى كايسي أنّه من بين كلّ الاحتمالات التي يواجهها بوتين وروسيا في المدى المنظور، يبقى احتمال بقائه في الحكم هو الأعلى.

مفارقة

مع ذلك، يبقى الاحتمال الأقلّ وضوحاً هو ما ستكون عليه روسيا خلال الأعوام الستة المقبلة. هل سيزداد اعتمادها على الصين فتتحوّل إلى الشريك الصغير للجار الجنوبيّ؟ ماذا عن قدرة روسيا على استعادة شبابها الذي هاجر إلى الخارج بخاصّة بعد فترة التعبئة الجزئيّة؟ هذا السؤال حيويّ بفعل أهمّيّة العنصر الشابّ في إعادة تنشيط الاقتصاد، وتحديداً في شقّه الرياديّ والمعرفيّ، بعد فرض عدد من العقوبات يفوق كلّ ما فُرض على إيران وكوبا وكوريا الشماليّة مجتمعة. حتى مع افتراض تمكّن روسيا من السيطرة الكاملة، لكن الباهظة الثمن، على المقاطعات الأوكرانيّة الأربع في الشرق، هل سيرى العالم في روسيا قوّة صاعدة أم متآكلة؟ وماذا عن التراجع الكبير في الصادرات العسكريّة الروسيّة، أحد أهمّ عناصر القوّة لدولة عظمى على الساحة العالميّة؟

تعكس هذه التساؤلات مفارقة محتملة أخرى عن حقيقة العلاقة بين قوّة بوتين في الداخل وقوّة روسيا في الخارج. عن هذه الأسئلة وطبيعة العلاقة، يمكن انتظار بعض الأجوبة على الأقلّ خلال العامين المقبلين.

التعليقات معطلة.