لكن عُرى هذا التحالف أوشكت أن تنفصم بعد اعتلاء الأمير محمد بن سلمان كرسي ولاية العهد، خلفًا لمحمد بن نايف، واستحواذه على العديد من السلطات داخل وخارج البلاد، وميله ناحية أبوظبي، وابتعاده عن أنقرة، خاصة بعد انتقاد أردوغان لمصطلح «الإسلام الوسطي المعتدل»، الذي يستخدمه الأمير الشاب، قائلًا: «لا يوجد شيء اسمه إسلام معتدل أو غير معتدل، الإسلام واحد، لا ينبغي أن يحاول أحد أن يضع الإسلام في موقف ضعفٍ عن طريق تنويع الإسلام أو إلصاق بعض الأوصاف به».
لينتظر ولي العهد السعودي فترة قبل أن يرد الصاع صاعين، خلال التصريحات التي أدلى بها إلى الصحافيين إبان زيارته لمصر في مطلع العام الجاري، والتي قال فيها: «يوجد مثلث شرّ في المنطقة، ويضم تركيا وإيران والجماعات الإرهابية»، موضحًا أن «تركيا تريد الخلافة وفرض نظامها على المنطقة، بينما تريد إيران تصدير الثورة، والجماعات الإرهابية التي تحاصرها الدول العربية»، كان هذا ما نقله إعلاميون مصريون، ونفته بعد ذلك السعودية.
هذه التصريحات المنقولة عن الرجل، والتي نفاها بعد ذلك، أتت امتدادًا للهجمة التي شنتها وسائل الإعلام المملوكة للدولة السعودية على تركيا، واتهامها بمحاولة التمدد والتوسّع من أجل إحكام السيطرة على العالم الإسلامي واستعادة «النفوذ العثماني»، وذلك بعد زيارة رجب طيب أردوغان للجزائر وتونس في البداية، ثم زيارته إلى السودان، وإعلان الأخيرة السماح لتركيا بإعادة إعمار وإدارة جزيرة سواكن، علاوة على عدم اصطفاف تركيا إلى جانب التحالف الإماراتي السعودي ضد قطر في أثناء الأزمة الخليجية، بل سارعت بإرسال جنود أتراك إلى الدولة المغضوب عليها، بالإضافة إلى إمداد الدوحة بالمنتجات الغذائية التي منعتها عنها دول الحصار، وانتهاءً بالتقارب التركي الإيراني في سوريا، الذي يثير قلق الحلف السعودي الإماراتي.
الرئيسان الإيراني والتركي
إلا أن هذه النبرة الهجومية، ما لبثت أن استكانت، بعد تواتر أنباء عن تدخل العاهل السعودي بنفسه من أجل كبح جماح ولي العهد، وأعلنت السفارة السعودية – في أنقرة عبر بيان رسمي نشرته على موقعها الرسمي – أنه «إشارة إلى التقارير الصحفية التي ذكرت أن سمو ولي العهد قد ذكر في لقاء له مع بعض الإعلاميين في القاهرة أن هناك قوى للشر في المنطقة وكان من ضمنها ما نقله بعضهم بأن سموه قال إنها تركيا، فإننا نوضح أن المقصود بكلام سمو ولي العهد هو ما يسمى بجماعة الإخوان المسلمين والجماعات الراديكالية».
هناك صحافيون ووسائل إعلام يحاولون تخريب العلاقات السعودية التركية واستمرار هذه الأقلام المشبوهة في نشر الشائعات والسموم لا يصب في مصلحة البلدين.
*وليد الخريجي، سفير الرياض بأنقرة
هذا بالإضافة إلى اهتمام المملكة الرسمي عبر ممثلها في أنقرة بنفي وقائع أحد مقاطع الفيديو المتداولة، والتي زعمت تعرض مواطن سعودي للإهانة عبر سحب العقال من رأسه في تركيا، قبل أن يرد السفير السعودي وليد الخريجي، بشكل رسمي، ويؤكد أن الواقعة ليست في تركيا، وإنما في أربيل بالعراق، قائلًا في تصريح أتى مخالفًا للصورة التي حاولت وسائل الإعلام السعودية ترويجها: «تركيا الشقيقة دولة صديقة ذات وزن وعلاقاتها مع السعودية مبنية على الاحترام المتبادل، والأمور تمضي قدمًا حسب ما يخطط لها من الجانبان تحت مظلة التعاون في شتى المجالات ومراعاة المصلحة العامة».
ثم أعقب هذه النبرة الإعلامية الهادئة، اتصال هاتفي من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يهنئه فيه بفوزه في الانتخابات الرئاسية، ثم تلاه إرسال الملك سلمان وولي العهد بيانين منفصلين إلى أردوغان يهنئانه فيه بذكرى عيد النصر.
الهدوء المزعوم كاد يتحول إلى عاصفة بسبب خاشقجي
هذا الهدوء المحفوف بالتوتر، كاد يتحول إلى عاصفة لا تبقي ولا تذر في مطلع الشهر الجاري، بعدما أعلنت الشرطة التركية اختفاء الصحافي جمال خاشقجي، بعد دخوله إلى قنصلية بلاده في إسطنبول، وتواتر أنباء عن اعتقاله وترحيله دون علم السلطات التركية إلى الرياض، قبل أن تتسرب الأخبار الصاعقة، وأن خاشقجي قد قتل في القنصلية السعودية بإسطنبول.
وبالرغم من الإنكار الرسمي السعودي طوال 17 يوم، إلا أن ضغط أنقرة على الرياض، أجبر المملكة في النهاية على الاعتراف بقتل خاشقجي داخل قنصلية بلاده عن طريق الخطأ، والتأكيد على عدم علم كلٍّ من الملك وولي العهد بهذه العملية في محاولة لرأب الصدع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
أجرى الملك سلمان اتصالًا هاتفيًا بالرئيس التركي، مؤكدًا على قوة العلاقات بين البلدين؛ ومؤكدًا عدم علم القيادة السعودية بالحادث، وأعقب هذا الاتصال، إعلان المملكة قتل خاشقجي عن طريق الخطأ بعد خروج محاولة إقناعه بالعودة إلى المملكة عن السيطرة، بحسب المزاعم السعودية، وتوقيف 18 سعوديًا بتهمة قتله.
وبرغم إشارة أردوغان الثلاثاء الماضي خلال خطابه بشأن خاشقجي إلى أن تركيا تريد محاسبة من أمر ومن نفذ، إلا أن تصريحات ولي العهد السعودي يوم الأربعاء 24 أكتوبر (تشرين الأول) خلال حضوره مؤتمر «دافوس الصحراء» المعقود في السعودية، والتي قال فيها: إن «البعض يحاول استغلال قضية خاشقجي لإحداث شرخ بين السعودية وتركيا، ولن يحدث شرخ بين السعودية وتركيا بوجود الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان»، مؤكدًا أن الحكومتين السعودية والتركية تعملان معًا لمحاسبة أي مجرم، ومشددًا أن «العدالة ستظهر».
لماذا تسعى المملكة لكسب ود تركيا مهما حدث؟
ومما يبدو جليًّا للعيان ميل المملكة مؤخرًا إلى كسب ود أنقرة، وعدم خسارة العلاقة معها، بالرغم من تنافسهما على زعامة المنطقة ونزعة الهيمنة التي تغلب على كليهما، الأمر الذي قد يبدو غير مفهوم للبعض أو مبرر. السطور التالية تحاول قراءة بعض المعطيات التي تفرض على الطرفين الاحتفاظ بشعرة معاوية فيما بينهما.
الرئيس التركي والعاهل السعودي
«رمضاء الروم» أحب إلى المملكة من «نار الفرس»
بعد انتقال السلطة إلى الملك سلمان، تغيرت الأولويات السعودية من «مواجهة الإرهاب» إلى مواجهة إيران والمد الشيعي. إذ تسببت اشتعال المواجهة الإقليمية بين السعودية وإيران على الأرض السورية في جعل تركيا شريكًا مرغوبًا للسعودية من جديد، وذلك بعدما وضعت المملكة في حسبانها إطلالة تركيا الجغرافية على كل من سوريا والعراق، والاستفادة من ذلك في تضييق الخناق على إيران وتحالفاتها الإقليمية. ففي الوقت الذي يرى فيه المراقبون أن رغبة تركيا في استعادة النفوذ العثماني القديم في المنطقة، يُهدد الحلف الإماراتي السعودي المصري، خاصة في ظل اتساع النفوذ العسكري التركي في المنطقة (لدى أنقرة ثلاث قواعد عسكرية بالمنطقة: في قطر، والصومال، وقاعدة بحرية محتملة في السودان)، تؤمن المملكة أن التمدّد الشيعي وهيمنة «نظام الملالي» على المنطقة أشد قسوة.
ومن هنا، يمكن القول إن كسب ودّ أنقرة عبر توفير غطاء عربي لعملياتها العسكرية المحتملة في سوريا لمواجهة الأكراد على طول نهر الفرات، ورقة قويّة بإمكان المملكة أن تلوّح بها لتركيا من أجل وصل الودّ الذي كاد ينقطع على أمل الاصطفاف في مواجهة الخطر الإيراني المحتمل بالنسبة لها.
ما بين الريال والليرة.. المصالح تُحرض على التصالح!
تظلّ المصالح الاقتصادية دائمًا وأبدًا، المبرر القويّ الذي يمنع حدوث أي تصعيد بين الطرفين، خاصة في ظل ما يمر به الاقتصاد السعودي، الذي يسعى جاهدًا للاعتماد على مصادر دخل أخرى غير النفط وفقًا لرؤية 2030، ويمكن القول إن المصالح المالية قادرة على إذابة أي جبل جليد، مهما بلغت ضخامته.
وبإلقاء نظرة على الأرقام، نعرف حجم شراكة الطرفين الاقتصادية، فالاستثمارات السعودية في تركيا وصلت نحو 11 مليار دولار؛ إذ بلغ عدد الشركات السعودية العاملة في تركيا 800 شركة، في قطاعات الطاقة والاتصالات والعقارات، وسط توقعات بازديادها مع إقبال مستثمرين سعوديين على العمل في تركيا، خصوصًا في مجال السياحة، فيما بلغ حجم التبادل التجاري بين الرياض وأنقرة حوالي 8 مليار دولار، مع وجود خطط للوصول به إلى 20 مليار دولار، وفق معطيات رسمية.
وبحسب تقارير رسمية صادرة عن وزارة التجارة والصناعة السعودية، فإن عدد المشاريع المشتركة بين البلدين، قد بلغ حوالي 159 مشروعًا، منها 41 مشروعًا صناعيًّا، و118 مشروعًا في مجالات أخرى، وتعد المملكة واحدة من أكثر الدول الخليجية تملكًا للعقارات في تركيا؛ إذ باعت تركيا للسعوديين 660 مسكنًا في عام 2017، وكذلك تتصدر السعودية رؤوس الأموال الخليجية المستثمرة في تركيا بمبلغ 6 مليارات دولار، بحسب أرقام رسمية تركية. أما عدد الشركات التركية العاملة في السعودية، فيبلغ قرابة 200 شركة بحجم استثمار يبلغ 17 مليار دولار، ويبلغ عدد العاملين الأتراك في مختلف القطاعات بالسعودية أكثر من 100 ألف عامل ومهني وإداري في القطاع الخاص، ووصل عدد السياح السعوديين إلى تركيا في عام 2017 نحو 600 ألف سائح، وعلاوة على هذا كله يحتاج الاقتصاد التركي إلى تأمين حصته في الأسواق السعودية والخليجية الواعدة؛ الأمر الذي يسهله التقارب مع الرياض.
التعاون العسكري أيضًا يحتل جزءًا من مشهد العلاقة بين البلدين، فقد شاركت المملكة في مناورات أفيس في إزمير، بالإضافة إلى التعاون في المجال الدفاعي؛ إذ شاركت 24 شركة تركية متخصصة في مجال الصناعات الدفاعية بمعرض القوات المسلحة السعودية لدعم التصنيع المحلي «أفد» في دورته الرابعة هذا العام. وصرح السفير التركي بأن بلاده تعتبر الرياض شريكًا استراتيجيًا، وذلك بعد اختيار تركيا ضيف شرف المعرض الذي يحظى برعاية العاهل السعودي، وبدعم ومساندة الأمير محمد بن سلمان.