بين الصراع والمصالح… الرئيس الإيراني إلى تركيا في “زيارة طال تأجيلها”

1

اردوغان مستقبلاً رئيسي (ا ف ب)

وصل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الأربعاء، إلى تركيا، في زيارة متأخرّة بعد أن تم تأجيلها مرّتين، الأولى في تشرين الثاني (نوفمبر) على خلفية التداعيات الدبلوماسية لأحداث غزة، حيث قالت مصادر تركية آنذاك إن الطلب الإيراني بتأجيل الزيارة جاء كرد فعل على استمرار تركيا في علاقاتها التجارية مع إسرائيل، في حين أجلّت طهران أيضاً الزيارة للمرة الثانية المقررة في أوائل كانون الثاني (يناير) الجاري بسبب هجوم “داعش” في إيران، والذي تسبب في مقتل ما يقرب من 100 شخص.

وبعد اجتماع الرئيسين أردوغان ورئيسي، سيتم عقد الاجتماع الثامن لمجلس التعاون التركي الإيراني رفيع المستوى برئاسة أردوغان ورئيسي، ومن المتوقع أن يتم التوقيع على 10 اتفاقيات تولّد بعضها حلولاً للمشاكل على الحدود التركية الإيرانية، التي لم يتم التوصّل إلى اتّفاق حولها خلال السنوات الماضية.

المايكروبوليتيكس بين التعاون والصراع

تتمتع العلاقة بين تركيا وإيران بديناميكية معقدة، تتجاوز طبيعة الجوار والجغرافيا السياسية والاقتصاد، وتطغى عليها “المنافسة” في مساحات وقطاعات كثيرة و”التعاون” في بعضها الآخر، في ظل حرص البلدين على الحفاظ على الخط الرفيع بين الصراع والتعاون من خلال فصل ملفّاتهما عن بعضها البعض عبر استراتيجية السياسات المجزأة “المايكرو-بوليتيكس”.

يتنافس البلدان على السلطة والنفوذ في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب القوقاز، مع حذر إيراني من التهديد التركي لأمنها الداخلي بسب التصوّرات الأيديولوجية لأنقرة “كالعثمانية الجديدة” أو “الوحدة التركية”، التي تعتبر عائقاً أمام إقامة شراكة استراتيجية طويلة الأمد بين البلدين حتى في القضايا التي تتداخل فيها المصالح.

ومع ذلك، فإن الحرب بين إسرائيل وحماس ستتصدّر جدول أعمال لقاء رئيسي مع نظيره التركي.

وعلى الرغم من أن كلا البلدين ينتقدان إسرائيل بشدة، إلا أن وجهات نظر تركيا وإيران حول الحرب الأخيرة، والقضية الفلسطينية، والاعتراف بإسرائيل، وأساليب حلّها، كلها أمور تتّسم بالاختلاف إلى درجة التعارض أحياناً، كما أن التعامل مع التهديدات الأمنية الجديدة التي خلقتها حرب غزّة تظهر تبايناً بينهما.

طلبات طهران ورغبات أنقرة

واستمرار التجارة بين تركيا وإسرائيل عبر الطريق البحري دون فقدان حجمها مقارنة بالفترة التي سبقت حرب غزة، سيكون أحد العوامل التي تعزز موقف رئيسي في التفاوض مع أردوغان بشأن الحرب، خصوصاً وأن إيران وعدداً قليلاً من دول المنطقة فقط تستمر في فرض الحظر التجاري على إسرائيل.

وبينما تعتمد إيران على الجماعات المسلحة الشيعية في المنطقة للضغط على عدوّتها إسرائيل وحلفائها الغربيين، فإن أنقرة ترتبط مع هذا “العدو” بعلاقات تجارية تشهد تزايداً منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وتتشارك مع حلفاء تل أبيب بمظلّة حلف الشمال الأطلسي.

وبناء على ذلك، فإن الرغبة الإيرانية بتفعيل المزيد من الضغوطات على إسرائيل وأميركا عبر الهجمات المتزايدة على القواعد الأميركية في سوريا والعراق والهجمات الصاروخية على السفن العسكرية والتجارية في البحر الأحمر، تقابلها رغبة تركية بإنهاء الحرب ونزع فتيل التوتّر في المنطقة والتركيز على الخطط والمشاريع الاستثمارية التي تساهم في خروجها من المأزق الاقتصادي الذي تعيشه البلاد منذ سنوات.

هذه الرغبة قد تدفع أردوغان للتركيز على الاستقرار الإقليمي والتحذير من تداعيات اتّساع نطاق الحرب، في رغبة ظهرت جليّة في بيان أنقرة بشأن التوتر الباكستاني-الإيراني، حين دعت الأطراف “إلى الاعتدال والحس السليم” مشددة على “الاستقرار الإقليمي”.

بالمقابل، من المتوقّع أن يضغط رئيسي على نظيره التركي لانتزاع موقف أكثر حزماً ضد إسرائيل، على أرضية زيادة عدد القتلى المدنيين في غزّة، في تكرار لمطالب وزير خارجيّته حسين أمير عبد اللهيان، الذي طلب في لقائه الأخير مع نظيره التركي هاكان فيدان في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بفرض أنقرة حظراً على إسرائيل بشكل صريح.

ويرى الباحث التركي في الملف الإيراني سافاش بورغهام، في تصريحات لـ”النهار العربي”، أن “تحميل هذه الزيارة معاني سياسية كبيرة لن يكون دقيقاً، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار بأن رئيسي، وإن كان رئيس إيران، إلا أن دوره تنفيذي، والقرار النهائي في شكل ومضمون السياسة الإيرانية يعود للمرشد الأعلى”.

مزاحمات في ملف فلسطين

العلاقة بين أنقرة وتل أبيب ليست مصدر انزعاج طهران الوحيد فيما يتعلّق بالملف الفلسطيني، بل يضاف إليه التأثير التركي على القضية الفلسطينية خلال حكم حزب العدالة والتنمية، خاصة بعد حادثة “دقيقة واحدة”، التي انتقد فيها الرئيس أردوغان نظيره الإسرائيلي شيمون بيريز في منتدى دافوس الاقتصادي عام 2009.

ولا شك أن انخراط أردوغان -النشط في الملف الفلسطيني- طغى على دور إيران واستراتيجيّتها لزيادة شعبيتها في العالمين العربي والإسلامي.

حيث انتشرت صور أردوغان في معظم شوارع غزة إلى جانب قادة قطر وحماس، وأصبحت أنقرة قبلة القادة السياسيين والعسكريين لـ”حماس” والمركز الاقتصادي للحركة، وعلى عكس مسؤولي الدول العربية والإسلامية الأخرى التي باتت تقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب، استقبل المسؤولون الأتراك في المسجد الأقصى والمدن الفلسطينية الأخرى بحماسة وهتافات ترحيبية.

وفي الوقت الذي كانت إيران تسعى إلى زعامة العالم الإسلامي، فإن سياسات حزب العدالة والتنمية، التي أعادت تركيا إلى الشرق الأوسط كفاعل مؤثر، أدت إلى مزاحمة نفوذ طهران في المنطقة، فيما ساهم تحسّن علاقات أنقرة مع دول خليجية وتل أبيب خلال السنتين الأخيرتين إلى دعم تطلّعاتها في لعب أدوار الوساطة والضامن في العديد من القضايا الإقليمية.

ويشرح بورغهام، المتخصص في العلاقات الإيرانية الدولية، أن “طهران من المؤكد أنها تشعر بالاستياء من تنامي العلاقات التركية-الإسرائيلية، لكنها في النهاية لا تملك وسائل ضغط لثني أنقرة عن مسار التطبيع”، مستبعداً نجاح طهران في انتزاع مثل هذه الورقة من أردوغان خلال لقائهما يوم الأربعاء.


ملف “العمال الكردستاني”

ومن المتوقّع أن تكون الحرب ضد حزب “العمال الكردستاني” أيضاً على رأس جدول أعمال محادثات أنقرة.

تشعر تركيا بالانزعاج إزاء ارتفاع وتيرة عمليات الحزب  الذي نفذ هجومين منفصلين في الشهر الماضي في شمال العراق، وذلك قبل مدة وجيزة من انطلاق الانتخابات المحلّية، حيث يسعى الرئيس التركي إلى استرداد البلديات الكبرى من المعارضة بأي ثمن.

ولقي 21 جندياً تركياً حتفهم في الهجمات التي نفذها “حزب العمال الكردستاني” في العراق، بين شهري كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير) الماضيين.

وفي هذا الصدد تعتبر أنقرة أن إيران قادرة على لعب دور في ملف “العمال الكردستاني”، خصوصاً فيما يتعلّق بتنامي نفوذ الحزب المحظور من قبل تركيا وحلفائه الغربيين في السليمانية، ثاني أكبر مدن إقليم كردستان العراق، والتي يُنظر إليها على أنها منطقة نفوذ طهران، حيث يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة عائلة طالباني، التي تربطها علاقات وثيقة جداً بإيران.

سوريا والعراق واليمن على الطاولة

تشعر أنقرة بالقلق من احتمال أن تؤدي المعادلة الأمنية الإقليمية المتغيرة بعد هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) وتداعياته إلى خلق بؤر توتّر وصراع جديدة في المنطقة بشكل عام وخصوصاً سوريا والعراق.

ومن المتوقع أن تحتلّ التطورات في البحر الأحمر مكاناً هاماً في مناقشات الزعيمين، حيث تشعر أنقرة بالقلق من أن الهجمات الصاروخية الأمريكية قد تزيد من خطر تصاعد التوتر الإقليمي، وتعتقد أن الاستخدام المتكرر لهذه القدرة العسكرية، المتوفرة أيضاً لدى العديد من دول المنطقة، سيفاقم الصراعات ويؤدي إلى الفوضى.

وأدّى قيام الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن بمهاجمة السفن التجارية التي تمر عبر البحر الأحمر ورد فعل الغرب، وخاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والتوتر العسكري بين الجماعات المدعومة من إيران والمتمركزة في لبنان وسوريا وإسرائيل، إلى زيادة المخاوف من الحرب الإقليمية.

وبعد الهجوم الذي شنته الولايات المتحدة وبريطانيا على الحوثيين المدعومين من إيران، قال أردوغان: “إنهم الآن حريصون على تحويل البحر الأحمر إلى حمام دم”.

ومن بين القضايا التي من المرجح أن تطرح في اجتماع أنقرة، نفوذ إيران في كل من العراق وسوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار الدور الإيراني في عملية التطبيع بين تركيا وسوريا، التي انطلقت بوساطة روسيا نهاية عام 2022، لكن هذا الدور مقرون بدعم مطالب دمشق بإنهاء أنقرة لوجودها العسكري غير الشرعي على الأراضي السورية، وهو ما يزعج تركيا.

ويشرح توقيت الزيارة الإيرانية المؤجلّة المتزامن مع اجتماع مجموعة أستانا في كازاخستان ثقل الملف السوري في علاقة البلدين.

ملفّات هامة أخرى

ومن القضايا الإقليمية الأخرى التي سيناقشها الطرفان، جهود ضمان السلام والاستقرار في جنوب القوقاز بعد الحرب بين أذربيجان وأرمينيا.

وبعد توقيع اتفاق السلام الدائم بين البلدين، تحاول تركيا تسليط الضوء على مجالات جديدة للتعاون مثل النقل الدولي والطاقة، ومن أهم هذه المشاريع تنفيذ ممر زانكيزور، الذي سيربط تركيا بأذربيجان مباشرة، عبر الأراضي الأرمينية جنوباً على الخط الفاصل بين أرمينيا وإيران.

لكن المشروع يواجه رفضاً إيرانياً قاطعاً خشية أن يؤدي إلى انقطاع مرور الترانزيت عبر أراضيها وأن تعرّض علاقاتها المباشرة مع أرمينيا للخطر، وفي الوقت ذاته تبدو طهران عاجزة عن معارضة المشروع لوحدها، لذا فهي تحاول حجز دور ومكان لها ضمن الممر من خلال المشاركة في المشروع.

30 مليار دولار

ومن المتوقع أن يتم في نهاية الاجتماع الوزاري توقيع ما يقرب من 10 اتفاقيات في مجالات الثقافة والعلوم والإعلام والشؤون الداخلية والنقل والتجارة والاقتصاد.

ويرجّح المحللون الأتراك أن يقوم الرئيس التركي بالتركيز على ملف التبادل التجاري، الذي انخفض في السنوات الأخيرة، من 22 مليار دولار في عام 2012، إلى ما يقرب من 6 مليارات دولار في العام الماضي، في حين تأمل انقرة من ان يصل هذا الرقم إلى هدف الـ 30 مليار دولار المعلن سابقاً.

ومن أسباب انخفاض حجم التجارة، قيام الجانب الإيراني بإزالة 68 منتجا من اتفاقية التجارة التفضيلية بين البلدين، وهو البند الذي ستطالب أنقرة جارتها بالعدول عنه خلال اجتماع اليوم.

كما سيتم الاتّفاق على زيادة عدد البوابات الحدودية بين البلدين من ثلاث إلى خمس من أجل زيادة حجم التجارة المتبادلة والتدفق السياحي الإيراني إلى تركيا.

أخيراً، تستثمر أنقرة انزعاج الولايات المتّحدة والقوى الغربية من سياسات إيران تجاه المنطقة، وعجزها في الوقت ذاته عن موازنة ثقل إيران بمفردها، لذا فهي تسعى من خلال إبقاء طهران قريبة إلى ضمان الرغبة الغربية في إشراك تركيا كقوة إقليمية وازنة وقادرة على إنجاح السياسات الغربية الرامية إلى تحقيق التوازن مع إيران.

التعليقات معطلة.