عبدالرحمن وليد بن سلامة
يقف المفكّر الإسلامي السياسي في مفترق طرقٍ صعب، بين التعامل مع الأحداث بواقعها المُرّ، وبين التمسّك بالمثالية، التي قد تجرّ في بعض الأحيان خسائر أكبر.
ولو عدنا إلى زمن الفتنة الأولى بين المسلمين، لوجدنا أنَّ جوهر الخلاف آنذاك تمحور أيضًا حول هذا المفهوم، إذ إنَّ بعض الصحابة الأجلاء لم يتكيّفوا مع المتغيّرات المحيطة، وبقوا على ما عهدوه في زمن الرسول ﷺ والخلفاء الراشدين، بينما حقيقة الجيل الجديد كانت مختلفة تماماً.
ويبقى السؤال: هل كان ذلك الموقف صائباً؟
نعم، إنَّه صائب إذا كانت الخسارة مقتصرة على الشخص ذاته أو أسرته الصغيرة، كما فعل سيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه، الذي آثر أن يكون قدوة ومثالًا في الصبر والثبات. لكن حين يكون القرار متعلّقًا بجماعة كبيرة أو بأمّة بأسرها، فإنَّ الراجح هو التعامل مع الواقع والتنازل بما يحقّق المصلحة العامة.
لقد تجلّت واقعية الرسول عليه الصلاة والسلام في مواقفه العظيمة، فقد ائتلف بعض شيوخ القبائل اتقاءً لشرّهم، وحرصًا على أسلمة أجيالهم القادمة.
كما اختلفت طريقة تعامله في مرحلة الضعف بمكّة عنها في المرحلة المدنية، عند تأسيس الدولة وتوحيد الصفوف، فلكلّ ظرفٍ معطياته، ولكلّ حادثٍ حديث يُبنى على دراسة متأنّية للمصالح والمفاسد.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، موقفه من الرأي القائل بقتل رأس المنافقين عبدالله بن أُبيّ بن سلول، إذ قال ﷺ: «حتى لا يقول الناس إنَّ محمدًا يقتل أصحابه».
وفي هذا الموقف دلالة عميقة على مراعاة مقالة الناس وتأثيرها في تشكيل الرأي العام، وهو مبدأ سياسي واقعي بالغ الأهمية.
لقد راعى النبي ﷺ مقالة الناس فما رأيكم بدماء المسلمين، واتّقاء الشرور في زمن الضعف، فكان يحرص دائمًا على الخروج من المواقف بأقلّ الخسائر، دون أن يضع المسلمين في موضع التهلكة.
لنكن مثاليين في تعاملنا مع أهلنا وعشيرتنا، ومثاليين في عطائنا في المجتمع، لكن حين نتحمل مسؤولية أمّةٍ بأسرها فلا بدّ من الواقعية، لأن المثالية المطلقة في الحكم والسياسة قد تُفضي إلى ضياع المصلحة الكبرى.
***
مثال واقعي من التاريخ الكويتي
حين وقّع الشيخ مبارك الصباح رحمه الله معاهدة الحماية مع البريطانيين، كان يدرك أنَّ التعامل الواقعي مع القوى الدولية آنذاك هو السبيل لضمان بقاء الكويت كدولة مستقلّة، بعيدًا عن أوهام الدولة العثمانية، التي كان نجمها في أفول.
كان موقف عامة الناس آنذاك عاطفيًا مثاليًا، ولو سارت الكويت في هذا الاتجاه، لربّما تغيّر مصيرها اليوم. لقد كان موقف الشيخ مبارك واقعيًا صائبًا، بينما كان موقف المتعاطفين مثاليًا خاطئًا على مستوى الأمة.
هذا والله أعلى وأعلم،،
عبدالرحمن وليد بن سلامة
https://alqabas.com/article/5954819 :إقرأ المزيد

