عندما سقط جدار برلين في نوفمبر 1989، ظن العالم أن زمن الجدران قد انتهى، وأن البشرية تتجه إلى حقبة جديدة من الانفتاح والتفاهم بين الشعوب. لكن ها نحن اليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود، نرى الحديث يعود مجددًا عن بناء جدار آخر، هذه المرة بين أوكرانيا وروسيا، كما صرح به بعض المسؤولين الأميركيين والغربيين، كحلٍّ لضمان أمن كييف ومنع تكرار الحرب عليها مستقبلاً.
إن فكرة بناء جدار مادي بين البلدين، تُعبر عن أزمة أعمق في النظام الدولي: أزمة فقدان الثقة، وتصاعد منطق الردع القائم على العزل بدلًا من الحلول السياسية الشاملة. وكما لم يمنع جدار برلين آنذاك الصراعات الأيديولوجية والاقتصادية والعسكرية من الاستمرار، فإن جدار كييف المفترض لن يكون ضمانة حقيقية للسلام، بل قد يتحول إلى شاهد آخر على فشل العالم في معالجة جذور الأزمات.
الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت عن تصدعات خطيرة في المنظومة الأمنية الأوروبية، وعن هشاشة التفاهمات التي قامت منذ نهاية الحرب الباردة. لذلك، فإن السعي لبناء جدار بين أوكرانيا وروسيا، مهما كانت دوافعه الأمنية مفهومة، لن يصنع سلامًا دائمًا. السلام الحقيقي لا ينبني بالإسمنت والحواجز، بل يُبنى على أساس تفاهمات دولية أعمق، تُعالج المخاوف الأمنية للطرفين، وتؤسس لعلاقات دولية أكثر توازنًا وعدالة.
صحيح أن الغرب اليوم يحاول دعم كييف سياسيًا وعسكريًا، ولكنه في الوقت ذاته بحاجة إلى رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تدرك أن عزل روسيا بالكامل أو شيطنتها لن يؤدي إلى الاستقرار، بل إلى خلق دورات صراع مستمرة. المطلوب ليس جدارًا ماديًا، بل منظومة أمنية أوروبية جديدة، تقوم على احترام السيادة، ومراعاة الهواجس التاريخية لكل الأطراف، وخلق آليات دبلوماسية فعالة تضمن عدم الانجرار إلى صدامات مستقبلية.
التاريخ يعلمنا أن الجدران تبنى عندما تغيب الثقة. لكنها تسقط عندما تنمو المصالح المشتركة، ويتقدم منطق الحوار على منطق السلاح. جدار برلين كان رمزًا لفشل مرحلة، وسقوطه كان بداية لولادة نظام عالمي جديد. أما جدار كييف، إن بني، فسيكون شهادة على عجز العالم عن التعلم من دروس ماضية ما تزال ندوبها حاضرة.
بين جدار برلين وجدار كييف، كتب التاريخ فصول ألمٍ وأمل، صراعٍ ووحدة. واليوم، يقف العالم أمام اختبار جديد . إما أن يكرس الانقسام بجدران جديدة، أو أن يختار بناء مستقبل مشترك يقوم على العقل والحكمة، لا على الأسلاك الشائكة والإسمنت البارد.
فصل جديد يُكتب الآن… والعالم كله شريك في صياغة عنوانه .